أحاديث البيوع (14)

 

تحدثنا في الحلقة السابقة عما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة وهي (طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه), ونهى عن الملامسة (والملامسة: لمس الرجل الثوب ولا ينظر إليه).

وعرفنا ما في هذا الحديث الجليل من أحكام في البيع والشراء وبخاصة في بعض ما نهى عنه فيهما.

وفي هذه الحلقة نتحدث عما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلقوا الركبان, ولا يبع بعضكم على بيع بعض, ولا تناجشوا, ولا يبع حاضر لباد, ولا تصروا الغنم, ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يجلبها, إن رضيها أمسكها, وإن سخطها ردّها وصاعاً من تمر), وفي لفظ: (هو بالخيار ثلاثاً).

وعما رواه الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان, وأن يبيع حائر لباد قال: فقلت لابن عباس: ما قوله (حاضر لباد؟) قال: (لا يكون له سمساراً) هذان حديثان مهمان في بيان بعض أحكام البيع والشراء, نقف معهما الوقفات الآتية:

 

الوقفة الأولى:

وردت رواية أخرى للحديث عند الإمام مسلم رحمه الله وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التلقي للركبان وأن يبيع حاضر لباد, وأن تسأل المرأة طلاق أختها, وعن النجش والتصرية, وأن يستام الرجل على سوم أخيه).

 

الوقفة الثانية:

قال في الحديث (لا تلقوا الركبان) الركبان: جمع راكب, وهو في الأصل راكب البعير, ثم توسع فيه فأطلق على كل راكب, والمراد بهم هنا: القادمون من السفر بجلوبه معهم لكي يبيعوها, وينطبق هذا الإطلاق حتى ولو كانوا مشاة ,والتنصيص على الركبان خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام يكون في الغالب راكباً, وحكم الجالب الماشي حكم الراكب ويدل على ذلك ما جاء في رواية أخرى: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الجلب, وهذه الرواية فيها النهي عن تلقي الجلب من غير فرق بين راكب وغيره.

وقال في الحديث: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) وذلك مثل أن يقول لمن هو في خيار المجلس مثلاً: أعطيك أحسن من هذه السلعة, أو أبيعك إياها بسعر أرخص إن كان مشترياً, ومثله: الشراء على شرائه كأن يقول مشترٍ آخر أشتريها منك بأكثر من ثمنها لكي يفسخ البيع.

وقال في الحديث (ولا تناجشوا) النجش بفتح النون وسكون الجيم, وأصل النجش الاستثارة, ومن نجشت الصيد أنجشه إذا استثرته, والنجش هو: الزيادة في السلعة ممن لا يريد شرائها بل لنفع البائع بزيادة الثمن, أو مضرة المشتري با غلائها عليه, وسمي النجش بهذا الإسم وتصرية البهائم: حبس اللبن في ضروعها حتى يجتمع, والمنهي عنه هو ما إذا كان القصد منه تغرير المشتري بكثرة لبنها, قال الشافعي: (هو ربط أخلاف الناقة أو الشاة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أن ذلك عادتها فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها‏).

وجاء في الرواية الأخرى: (وأن تسأل المرأة طلاق أختها), قال النووي رحمه الله: معنى هذا نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلاً طلاق زوجته، وأن يتزوجها هي، فيصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ما كان للمطلقة، قال: والمراد بأختها غيرها, سواء كانت أختها من النسب أو الرضاع أو الدين, ويلحق بذلك الكافرة في الحكم وإن لم تكن أختاً في الدين, إما لأن المراد الغالب, أو أنها أختها في الجنس الآدمي.

وذكر ابن عبد البر رحمه الله أن الأخت هنا الضرة, فقال من الفقه لأن الزائد يثير الرغبة في السلعة, ويرفع ثمنها.

وقال في الحديث: (ولا يبع حاضر لباد), الحاضر هو ساكن الحضر, والبادي: ساكن البادية, والمراد به: القادم لبيع سلعته بسعر وقتها سواء كان بدويا أو حضرياً, فيتصده الحاضر ليبيع له سلعته بأغلى من سعرها لو كانت مع صاحبها, والسمسار هو البائع أو المشتري لغيره.

وجاء في رواية للنسائي: (وأن يبيع مهاجر للأعرابي), والمراد: أن يبيع حاضر لباد لكن خص المهاجر نظراً لذلك الوقت لأن الأنصار كانوا يومئذ أهل زرع, والمهاجرين كانوا أهل تجارة.

وجاء في الحديث: (ولا تُصروا الغنم) تصروا بضم التاء وفتح الصاد بعدها راء مثقلة مضمونة, مأخوذ من التصرية والتصرية في الأصل: حبس الماء, أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به, وهذا يمكن في الرواية التي وقعت بلفظ: (لا تسأل المرأة طلاق زوجها).

وقال أيضاً في الرواية الأخرى: (وأن يستام الرجل على سوم أخيه), ومعناه: أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع ولم يعقداه فيقول الآخر للبائع: أنا أشتريه, وهذا هو المنهي عنه أي بعد استقرار الثمن, وأما السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد فليس بحرام, كما سيأتي تفصيله بإذن الله.



بحث عن بحث