صلة النساء بالجهاد (الحج والعمرة)

 

عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: (قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة)(1).

 

هذا حديث عظيم، بين صلة النساء بالجهاد والحج، ذلكم العملان العظيمان في دين الله تعالى، نقف معه الوقفات الآتية:

الوقفة الأولى: قولها - رضي الله عنها-: (على النساء جهاد)، يعني هل على النساء جهاد؟ فهو استفسار منها - رضي الله عنها- في حكم الجهاد على النساء.

والجهاد لغة: بذل الجهد والطاقة.

واصطلاحاً: له معنيان: معنى خاص، ومعنى عام.

فأما الخاص فهو: قتال الكفار لإعلاء كلمة الله.

وأما العام فهو: بذل الجهد في طاعة الله تعالى.

أما معنى الحج والعمرة فقد سبق في الحديث الذي قبله.

الوقفة الثانية: في هذا الحديث بيان لفضل الجهاد في سبيل الله - عز وجل- الذي هو دعوة الكفار وقتالهم، حتى يدخلوا في دين الله - عز وجل-، إذ إن عائشة - رضي الله عنها- تسابق إلى أن تسأل عن حكم هذا العمل الفاضل العظيم بالنسبة للمرأة المسلمة.

ولقد تظافرت في فضل الجهاد النصوص القرآنية والنبوية، فهو ذروة سنام الإسلام، وبه قام الدين، وارتفعت رايته، وعلت الملة، وهو من أعلى القربات، وأجل الطاعات، وشرع لإعلاء كلمة الله، وتبليغ دعوته للناس كافة. قال تعالى في بيان فضل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(2).

وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ)(3).

وقال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)(4).

والآيات في ذلك كثيرة جدًا، لا يتسع المقام لحصرها، أما الأحاديث فكثيرة أيضاً، منها ما رواه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل: أي العمل أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله...) الحديث. وروى الشيخان عن أنس مرفوعاً (الغدوة وروحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها).

أما حكم الجهاد فقد اتفق علماء المسلمين على أن الجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، إلا أنه يتعين في حالات ثلاث:

1-     إذا تقابل الصفان فيحرم على من حضر الإنصراف، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

2-     إذا نزل الكفار ببلد معين تعين على أهله قتالهم ودفعهم؛ لأن الدفاع عن النفس واجب، قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

3-     إذا استنفر الإمام قوماً لزم النفير؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

الوقفة الثالثة: تساؤل عائشة - رضي الله عنها- عن حكم الجهاد بالنسبة للمرأة، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم- أن الجهاد المتعارف عليه ليس واجباً على المرأة، واتفق الفقهاء على ذلك، ومما يدل عليه أيضاً أن آيات وجوب القتال مثل قوله  تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ) وقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) قد خصصتها السنة، فأخرجت النساء من هذا الحكم، وبينت أنه لا يجب الجهاد على النساء، قال الصنعاني -رحمه الله-: (دل ما ذكر على أنه لا يجب الجهاد على المرأة وعلى أن الثواب الذي يقوم مقام جهاد الرجال حج المرأة وعمرتها).

ومن الحكم من عدم وجوب الجهاد على النساء – والله أعلم – ما يلي:

1-     أن تكوين المرأة الخلقي يختلف عن الرجل، فقد هيأ الله تعالى كل واحد من الرجال أو النساء للقيام بما كلف به من وظائف، فالطبيعة التي خلقت عليها المرأة من ضعف البنية في الجسم، ورقة في العاطفة، وفزع عند المصائب، كلها تتنافى مع ما يستلزمه الجهاد من قوة الجسم، وكمال في العقل،  وقدرة على التحمل، وشجاعة، وإقدام، فالإسلام راعى هذا الأمر، ولم يوجب على المرأة الجهاد.

2-     أن المرأة مأمورة بالستر والحجاب، والقرار في البيت، والابتعاد عن الرجال، وعدم الاختلاط بهم ومواجهتهم، ففي إيجاب الجهاد عليها تعريض لها للخروج أمام الرجال، والاختلاط بهم، ومزاولة الأعمال الخاصة بهم.

لكن يبقى أمر يحتاج إلى بيان ذلكم، هو هل معنى عدم وجوب الجهاد أنه لا يجوز لها الخروج للجهاد مطلقاً؟.

الوقفة الرابعة: بين الحديث مجالاً من مجالات الجهاد للمرأة، ألا وهو الحج، قال - عليه الصلاة والسلام-: (عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) وذلك أن في كلا العمليتين مشقة، وجهد، وعمل، فلذلك سمى الرسول - صلى الله عليه وسلم- الحج جهاداً.

وهذا يقودنا إلى أن نبين بعض المجالات التي يمكن أن تسهم فيها المرأة، وهي بالنسبة لها من باب الجهاد ومن ذلكم.

1-     العمل في البيت بمختلف شعبه، وألوانه، من خدمة الزوج، ومعاونته، ومساعدته في مهامه، وتهيئة الجو المناسب له، وإعداد ما يلزمه من حاجيات وغيرها، وكذا القيام على تربية الأبناء والبنات.

  فـ ( الأم مدرسة إذا أعددتهـا             أعددت شعباً طيب الأعراق)

 وهذا من أعظم أبواب الجهاد، ومجالات المسؤولية، قال - عليه الصلاة والسلام-: (والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها).

2-     العمل في مجالات العمل الأخرى إذا لم يخل في العمل البيتي، وأن يكون ذلك في المجالات الخاصة بالمرأة، كأن تعمل معلمة للطالبات، أو طبيبة للنساء، أو ممرضة لهن، ونحو ذلك، فلا بد من انتفاء الاختلاط مع الرجال، فإسهامها بذلك مجال من مجالات الجهاد، وفي ذلك خير عظيم إذا استغل لنشر الخير والفضيلة.

3-     العمل بوسائل الدعوة المتاحة لها، كالكتابة في المجالات المختلفة، أو النصيحة المباشرة، أو غير المباشرة، ونحو ذلك من الوسائل التي تستطيعها، وكل ذلك من الجهاد.

4-             سائر الطاعات والقربات، قياسًا على الحج.

الوقفة الخامسة: جاء في بعض الروابات (لكن أفضل الجهاد وأجمله حج مبرور، ثم لزوم الحصر) يفيد أن المسلمة إذا حجت فرضها أن تلزم بيتها؛ اتباعاً للقاعدة العامة: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)، ففيه توجيه لعدم تكرار الحج، فبيتها أفضل من حجها، إذا قامت بالواجبات عليها، والله أعلم.

الوقفة السادسة: بيّن الحديث مجالاً من مجالات الجهاد وهو الحج والعمرة، وهذا يدل على أن مفهوم الجهاد مفهوم واسع، وليس منحصراً في القتال كما يتبادر إلى أذهان كثيرين عند إطلاق هذا اللفظ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم- سمّى الحج والعمرة جهاداً، وقال للذي جاء يستأذن في الخروج للقتال: (أحيّ والداك؟) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد).

فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم- بر الوالدين، والقيام على خدمتهما من الجهاد في سبيل الله، والله - سبحانه وتعالى- بذل المال لطاعته، وفي سبيله جهاداً، فقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)، وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، والنصوص في توضيح هذا المعنى كثيرة، ولذا قسّم العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى- الجهاد إلى عدة أقسام، فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه في كتاب زاد المعاد.


 


(1)      رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، 6/4. وفي كتاب الحج 3/381.
(2)      سورة التوبة، الآية: 111.
(3)      سورة التوبة، الآية: 20.
(4)      سورة آل عمران، الآيات: 169-171.

 



بحث عن بحث