الحديث التاسع عشر، والعشرون

اليقين لا يزول بالشك

 

عن عباد بن تيم عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني قال: شُكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرّجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في صلاته، فقال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)(1).

وعن أم قيس بنت محصن الأسدية أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه في حجره فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله(2).

وفي رواية عن عائشة - رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي بصبي فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ، فأتبعه إيّاه، ولمسلم: (فأتبعه بَوله ولم يغسله)(3).

في هذه الأحاديث المهمة عدة وقفات نستعرضها فيما يلي:

الأولى: قوله: (شُكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل)، شُكِيَ: بضم الشين وكسر الكاف مبني للمجهول، والرجل قائم مقام الفاعل، والشاكي هو الراوي عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، كما جاء في الصحيح أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وقوله: (يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة): يُخَيَّل بضم أوله وفتح الخاء وتشديد الياء الأخيرة المفتوحة، وأصله من الخيال، والمعنى: يظن، والمراد بالظن هنا خلاف اليقين، وقوله: (يجد الشيء) أي الحدث خارجاً منه.

الثانية: يستنبط من الحديث قاعدة شرعية عظيمة، تبنى عليها كثير من الأحكام العلمية، فيحسن بالمسلم أن يفهمها، ويعي تطبيقها، وهي: أن الأصل بقاء الأشياء المتيقنة على حكمها، فلا يعدل عنها لمجرد الشكوك والظنون، سواء قويت تلك الشكوك أو ضعفت، ما دامت لم تصل إلى درجة اليقين، يقول الإمام النووي - رحمه الله-: (هذا الحديث أصل في حكم بقاء الأشياء على أصولها، حتى بتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها) ا.هـ كلامه - رحمه الله-.

وبناءً على هذه القاعدة: فلو شك متوضئ هل أحدث أم لا؟ فهو على أصل الطهارة حتى يتيقن الحدث.

وكذا من شك في ثوبه الطاهر هل علقت به نجاسة أم لا؟ فالأصل الطهارة، وهكذا.

فهذه القاعدة عظيمة النفع جداً، ولها فوائد مهمة، منها أن يعبد المسلم ربه بوضوح وجلاء، من غير شكوك ولا وساوس، ومنها أنها تطرد الشيطان عن ذهن الإنسان، فإذا علم أن هذه الشكوك لا تؤثر عليه خنس وانتكس.

الثالثة: يستفاد من الحديث أنه لا يجوز الانصراف من الصلاة لغير سبب بيّن واضح متيقن، كما يستفاد أيضاً أن الريح الخارجة من الدبر ناقضة للوضوء؛ لترتيب جواز الانصراف على حصولها.

الرابعة: يستنبط من الحديث أن المراد حصول اليقين، فلو حصل اليقين بنقض الوضوء ولو لم يسمع صوتاً أو يشم ريحاً فينتقض وضوؤه، ما دام حصل له اليقين بذلك.

الخامسة: مما يستفاد من حديث أم قيس بنت محصن الأسدية كريم خلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث كان الصحابة - رضي الله عنهم- يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم بأطفالهم؛ لينالوا بركته، وبركة دعائه، فكان - صلى الله عليه وسلم يستقبلهم، ويلاطفهم بالبشر والسماحة، ويجلسهم في حجره الطاهر، ولا يشمئز مما يحصل منهم، من أذى ونحوه، فعلينا أن نقتدي به - صلى الله عليه وسلم -، وأن نعامل الصغار معاملة خاصة، فلا نتذمر من أفعالهم وتصرفاتهم، وإذا تبين منهم خطأ معين يصحح بطريقة مناسبة اتباعاً للمصطفى - صلى الله عليه وسلم -.

السادسة: يؤخذ من الحديث أيضاً أن بول الغلام إذا أصاب ثوباً فإنه ينضح عليه الماء ولا يغسل، وهل يدل ذلك على طهارته أو نجاسته، جمهور أهل العلم على أن بوله – وإن كان الغلام لم يأكل الطعام – نجس، لكنه خفف تطهيره.

هذا كله بالنسبة للغلام؛ أما بالنسبة للجارية فلا بد من الغسل؛ لما روى أبو داود والنسائي عن أبي السمح - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام)(4)، صححه الحاكم، فعلم من هذا التفريق بين تطهير بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، وبين بول الجارية أكلت الطعام أم لا؟ والتخفيف لتطهير بول الغلام تيسير وتسهيل من الشارع الحكيم. والله أعلم.

 


 


(1)    رواه مسلم في كتاب الحيض، باب 26، 1/276 رقم الحديث 99.

(2)    رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب بول الصبيان 1/93 رقم 223.

(3)    أخرجه مسلم.

(4)    رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب 1/102 رقم 376، والنسائي في كتاب الطهارة، باب بول الجارية 1/158.

 



بحث عن بحث