الوقفة التاسعة: قوله في الحديث: (ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً)، وقوله في الرواية الأخرى: (ثم غسل رجليه)، وفي رواية: (ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك).

الكعبان: هما العظمان الناتئان عند ملتقى الساق مع القدم.

أما حكم غسل الرجلين فلا خلاف بين أهل السنة المعتبرين أن غسلهما فرض من فروض الوضوء، يقول النووي - رحمه الله-: (أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين).

قالت بعض الطوائف: إن الواجب المسح فقط، وقال آخرون: إنه يجب الغسل والمسح، مستدلين بقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) فقرأوا وأرجلكم بكسر اللام عطفاً على مسح الرأس.

والصحيح أن الواجب الغسل بدليل قراءة فتح اللام (وأرجلكم)، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى جماعة توضأوا  وبقيت أعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال: (ويل للأعقاب من النار)(1)، فدل ذلك على وجوب الغسل لا المسح.

الوقفة العاشرة: ذكر في هذا الحديث تعدد الغسلات في بعض الأعضاء، ولذا أجمع العلماء على أن الواجب في جميع الأعضاء الغسل مرة واحدة، لحديث ابن عباس - رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة(2).

ومرتان أفضل؛ لحديث عبد الله بن زيد _ رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين، رواه البخاري(3).

وقد أجمع العلماء أيضاً على أن الوضوء ثلاثاً ثلاثاً – كما ذكر في بعض الأعضاء – مستحب في جميع أعضاء الوضوء إلا الرأس، فالراجح أن الواجب والمستحب مرة واحدة.

فإن زاد على الثلاث كره كراهة شديدة، قال الإمام أحمد - رحمه الله-: ( لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى)، ويقول ابن المبارك - رحمه الله-: (لا آمن من ازداد على الثلاث أن يأثم)، ويقول إبراهيم النخعي- رحمه الله-: (تشديد الوضوء من الشيطان). وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي- صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: (هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم)(4). لكن لو فرض أن شخصاً توضأ فزاد على ثلاث مرات فهل يبطل وُضوؤه؟ الجواب: أنه لا يبطل وضوؤه، لكن فعله يكره كراهة شديدة، كما سبق.

الوقفة الحادية عشرة: ذكر في هذا الحديث الوضوء مرتباً، وعليه فقد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء، فلا يجوز حينئذ أن يؤخر عضواً حقه التقديم، ولا العكس، فلا يؤخر غسل الوجه إلى ما بعد مسح الرأس وهكذا، ولهذا القول عدة أدلة، منها: قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)، قال الإمام النووي - رحمه الله-: ووجه الدلالة من هذه الآية على الترتيب أن الله - سبحانه وتعالى- ذكر ممسوحاً بين مغسولات، وعادة العرب إذا ذكرت أشياء متجانسة وغير متجانسة جمعت الأشياء المتجانسة على نسق، ثم عطفت غيرها، لا يخالفون ذلك إلا لفائدة، فلو لم يكن الترتيب واجباً لما قطع النظير من نظيره، ثم أيضاً أن مذهب العرب إذا ذكرت أشياء وعطفت بعضها على بعض تبتدئ بالأقرب فالأقرب، لا يخالفون ذلك إلا لمقصود، فلما بدأ - سبحانه وتعالى- بالوجه ثم اليدين، ثم الرأس، ثم الرجلين دل ذلك على وجوب الترتيب، وإلا لقال: اغسلوا وجوهكم، وامسحوا برؤوسكم، واغسلوا أيديكم وأرجلكم.

ومما يدل على وجوب الترتيب أيضاً الأحاديث الصحيحة الصريحة المستفيضة من جماعات من الصحابة في صفة وضوء النبي  - صلى الله عليه وسلم -، وكلهم مع كثرتهم، وكثرة المواطن التي رأوه فيها وصفوه مرتباً.

وذهب بعض أهل العلم وهم المالكية، والأحناف قالوا: إن الترتيب مستحب وليس بواجب؛ لأن آية الوضوء فصلت بين الأعضاء بالواو، والواو لا تقتضي ترتيباً، فكيفما غسل المتوضئ أعضاءه كان ممتثلاً للأوامر، ثم إن الوضوء طهارة كالغسل، فلم يجب فيه ترتيب.

لكن الصحيح – والله أعلم – أنه يجب الترتيب بين أعضاء الوضوء؛ للأدلة التي ذكرناها، ولا تقوى أدلة الرأي الآخر على معارضتها. وعليه فعلى كل متوضئ أن يرتب بين أعضائه، ولا يقدم عضواً على آخر؛ لئلا يعرض وضوءه للبطلان، لكن هل يجب هذا الترتيب داخل العضو من الأعضاء كاليدين مثلاً، بحيث لا يجوز أن يقدم اليسرى على اليمنى، أو لا يجب الترتيب، فإن فعل أجزأ؟

الصواب – والله أعلم – أنه لا يجب الترتيب داخل كل عضو من الأعضاء؛ لأنها كالعضو الواحد، ويدل على ذلك إطلاقها في القرآن الكريم، لكن ذكر أهل العلم أنه يستحب استحباباً مؤكداً تقديم اليمين على الشمال في اليدين والرجلين، وتقديم المضمضة على الاستنشاق، وكلاهما من الوجه. فإن فعل خلاف ذلك أجزأ وخالف الأولى.

الوقفة الثانية عشرة: الواضح من هذا الحديث تحقيق الموالاة بين أعضاء الوضوء، والموالاة هي: عدم التفريق بين أعضاء الوضوء في الوضوء، وقد أجمع أهل العلم أن على التفريق اليسير لا يضر، أما التفريق الكثير فاختلف فيه على قولين:

القول الأول: أنه لا يضر، لأنه ظاهر آية الوضوء، وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلا الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)(5)، فظاهر هذه الآية ليس فيها موالاة، وقالوا أيضاً إن المأمور به هو غسل الأعضاء، فكيفما غسلها جاز، ثم إن الوضوء طهارة كالغسل، والغسل ليس فيه موالاة، وكذلك الوضوء.

والقول الثاني: أن الموالاة واجبة في الوضوء، ومعنى ذلك أنه لا يجوز أن يفرق بين أعضاء الوضوء في الوضوء زمناً طويلاً، لما روى أبو داود، والبيهقي، وغيرهما عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن النبي  - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة)(6) وهذا الحديث احتج به بعض العلماء، وضعفه آخرون، لكن الأقوى منه ما رواه مسلم - رحمه الله- عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: (أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي  - صلى الله عليه وسلم - فقال ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلى)(7).

فيدل هذا على أن التفريق بين أعضاء الوضوء يضر، أما آية الوضوء فقد أوضحت كيفية الوضوء، والنبي  - صلى الله عليه وسلم - بفعله وقوله فسر مجمل الآية، قاله العلامة ابن قدامة - رحمه الله-. وهذا هو الصحيح - إن شاء الله-. لكن ينبغي أن نعلم أن الموالاة الواجبة هي أن لا يترك غسل عضو حتى يمضي زمن يجف فيه العضو الذي قبله في الزمان المعتدل، وهذا يعني أنه لو تركه زمنا يسيراً، جف فيه العضو الذي قبله لا يضر ذلك - إن شاء الله تعالى-.

الوقفة الثالثة عشر: لم يذكر في هذا الحديث التسمية قبل الوضوء؛ فما حكمها؟ هل هي واجبة أم مستحبة؟ وما الحكم عند نسيانها؟ وفي ذلك قولان لأهل العلم، أحدهما أنها واجبة، وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله- لما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) رواه أبو داود والترمذي(8).

لكن قول جمهور أهل العلم أنها سنة مؤكدة، فالوضوء طهارة لا تفتقر إلى التسمية، كالطهارة من النجاسة، أما الحديث فإسناده ضعيف، لا يقوى على الاحتجاج به، وعليه فإن نسيها المتوضئ صح وضوؤه، ولكنه ترك السنة.

الوقفة الرابعة عشرة: لم يذكر في هذا الحديث ما يقول المتوضئ بعد فراغه من وضوئه، لكن ذكر في أحاديث أخرى بعض الأدعية التي يستحب أن يدعوا بها بعد الوضوء، منها ما رواه الإمام مسلم، وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)(9).

وفي رواية للترمذي أن المتوضئ يستحب أن يقول بعد فراغه: (اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين)(10).

الوقفة الخامسة عشرة: لم يذكر في هذا الحديث أيضاً النية، وقد ذكر جمهور أهل العلم أن النية شرط في صحة الوضوء، فهو عبادة من العبادات والله - سبحانه وتعالى- يقول: ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)(11)، ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: (إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى)(12). وعليه فلا بد من النية قبل الوضوء.

الوقفة السادسة عشرة: قال - صلى الله عليه وسلم - في نهاية الحديث: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه). يبين - صلوات الله وسلامه عليه- الأجر العظيم، والثواب الجزيل للذي يقوم بتلك العبادة العظيمة، وهي أن يتوضأ وضوءاً كاملاً، ثم يصلي ركعتين لله - عز وجل- حاضراً من قلبه فيهما، متوجهاً إلى الله - سبحانه وتعالى-، مستحضراً ما يقول، جزاء ذلك كله غفران ما تقدم من الذنوب، وهذه منحة جليلة، ونعمة عظيمة، لا يوفق لها إلا المخلصون لله بأعمالهم.

 


 


(1)     سبق تخريجه.

(2)     أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب الوضوء مرة مرة 1/77 رقم 157.

(3)     أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب الوضوء مرتين مرتين 1/77 رقم 158.

(4)     أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في القصد في الوضوء، وكراهية التصدي فيه 1/146 رقم 422.

(5)     سورة المائدة، الآية: 6.

(6)     أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب تفريق الوضوء رقم 173، والبيهقي 1/83.

(7)     أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب استيعاب جميع محل الطهارة 1/215.

(8)     أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء 1/25 رقم 101، والترمذي في أبواب الطهارة باب ما جاء في التسمية عند الوضوء 1/37-38 رقم 25.

(9)     أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء 1/209 رقم 234.

(10)     أخرجه الترمذي في أبواب الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء 1/77 رقم 55.

(11)     سورة البينة، الآية: 5.

(12)     سبق تخريجه.



بحث عن بحث