بداية التأليف في أسباب الورود

إن التأليف في أسباب ورود الحديث لم يكن معهودًا في السابق؛ لقرب العهد بمعرفة أسباب الورود وما سبقها وما لحقها، فلما تباعدت الأزمان وقلَّ علم الناس في هذا الصدد- واحتاجوا لضبط قواعد هذا العلم- دعت الحاجة إلى جمع مفرداته والربط بين الأحاديث ومسبباتها بتقعيدات وضوابط يحد بها ويعلم، فجاء تأليفه وتجميع مادته في القرن الخامس، وقيل: الرابع على ما يأتي في ذكر المصنفين.

قال الإمام البُلقيني- في شرحه للفظة (حديث): «فيه دلالة تشعر بأن مبدأ هذا الحكم وسماعهم له كان ذلك اليوم على هذا السبب، ومعنى ذلك أن البحث عن أسباب ورود الحديث ظهرت مبكرة، ولجأ إليها الصحابة رضوان الله عليهم؛ لكي يتوجه النص الوجهة الصحيحة».

قال الإمام الزركشي في ذكره لأهمية هذا النوع: «وقد ردت عائشة رضي الله تعالى عنها على الأكابر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بسبب إغفالهم سبب الحديث»(1).

ومن الأمثلة على ذلك حديث: «الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»(2).

قال الشافعي رحمه الله: «أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة، عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف قال: ابتعت غلامًا، فاستغللته، ثم ظهرت فيه علي عيب، فخاصمته فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى له بردِّه، وقضى عليَّ بردِّ غلَّته، فأتيت عروة بن الزبير فأخبرته، فقال: أروح إليه العشيَّة فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في مثل هذا أن الخراج بالضَّمان، فعجلت إلى عمر رحمه الله، فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر بن عبد العزيز: فما أيسر علي من قضاء قضيته- والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق- فبلغني فيه سنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فراح إليه عروة، فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له»(3).

أقوال العلماء في ذكر أوّل من صنّف في هذا الفن:

قال الإمام ابن حجر: «معرفة سبب الحديث: وقد صنف فيه بعض شيوخ القاضي أبي يعلى بن الفراء الحنبلي، وهو أبو حفص العُكْبَري.

وقد ذكر الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد أن بعض أهل عصره شرع في جمع ذلك، فكأنه ما رأى تصنيف العكبري المذكور»(4).

وقال الإمام ابن الملقن: «اعلم أن بعض المتأخرين من أهل الحديث شرع في تصنيف أسباب الحديث كما صنف في أسباب النزول للقرآن العزيز، كالواحدي وغيره، كذا عزاه الشيخ تقي الدين لبعض المتأخِّرين، وعزاه ابن العطار في شرحه إلى ابن الجوزي وغيره، وسمعت من يذكر أن عبد الغني بن سعيد الحافظ صنَّف فيه تصنيفًا قدر العمدة»(5).

وقال الإمام السيوطي: «صنف فيه أبو حفص العُكْبَري وأبو حامد بن كوتاه الجُوبَاري، قال الذهبي: ولم يسبق إلى ذلك»(6).

وقال أيضا: «وأما أسباب الحديث فألف فيه بعض المتقدِّمين ولم نقف عليه، وإنما ذكروه في ترجمته»(7).

وقال الإمام السَّخاوي: «تتمَّة: مما يتضح به المراد من الخبر معرفة سببه؛ ولذا اعتنى أبو حفص العُكبري- أحد شيوخ القاضي أبي يعلى بن الفراء الحنبلي- ثم أبو حامد محمد بن أبي مسعود الأصبهاني عرف بكوتاه بإفراده بالتصنيف، وقال ابن النجَّار في ثانيهما: إنه حسن في معناه لم يسبق إليه. وليس كذلك فالعُكبري متقدم عليه»(8).

ترتيب  مَن صنّف في هذا الفن قبل الإمام البلقيني:

يمكن ترتيب من صنّف في هذا الفن قبل البلقيني بحسب ما ذكره أهل العلم كالتالي:

1- عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد بن بشر بن مروان الحافظ أبو محمد الأزدي: قال ابن الملقن: «سمعت من يذكر أن عبد الغني بن سعيد الحافظ صنف فيه تصنيفًا قدر العمدة»(9).

2- أبو حفص العكبري: قال ابن حجر: أفرده أبو حفص العكبري من شيوخ أبي يعلى بن الفراء بالتصنيف- أي في أسباب ورود الحديث- وهو في المائة الخامسة، ووقفت على مختصر منه(10).

3- أبو حامد محمد بن أبي مسعود المعروف بابن كوتاه الأصبهاني الجُوبَاري: قال الإمام الذهبي: «وجوبار محلة بأصبهان... حدث ببغداد وأصبهان وجمع كتابًا في أسباب الحديث»(11).

4- أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن محمد بن على بن عبد الله بن الجوزي: قال ابن الملقن: «وعزاه ابن العطار- أي أسباب الحديث- في شرحه إلى ابن الجوزي»(12).


 


(1)
  
«النكت على ابن الصلاح» للإمام الزركشي (1/70، 71).
(2)    أخرجه أحمد في «مسنده» (6/ 49، 80، 116، 161، 208، 237)، أبو داود: كتاب «البيوع» باب «فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا» (3508- 3510)، الترمذي: كتاب «البيوع» باب «ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد به عيبًا» (1285، 1286)، النسائي: كتاب «البيوع» باب «الخراج بالضمان» (4490)، ابن ماجه: كتاب «البيوع» باب «الخراج بالضمان» (2242، 2243)، قال الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1822): «حسن».
(3)    أخرجه الشافعي في «المسند» (1203)، الطيالسي (1464) مختصرًا، البيهقي (5/ 321).
(4)    «نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر» (1/ 50، 51).
(5)    ابن الملقن في «الإعلام بفوائد الأحكام» (1/ 205).
(6)    «تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي» (2/ 395).
(7)    مقدمة «اللمع» في أسباب ورود الحديث (ص 28).
(8)    «فتح المغيث شرح ألفية الحديث» (3/ 55، 56).
(9)    ابن الملقن في «الإعلام بفوائد الأحكام» (1/ 205).
(10)    انظر: «فتح الباري» لابن حجر (11/ 86).
(11)    انظر: «تاريخ الإسلام» للذهبي (9/ 133).
(12)    ابن الملقن في «الإعلام بفوائد الأحكام» (1/ 205).



بحث عن بحث