وقفات مع حديث جبريل (1-3)

 

 

   عن عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-، فاسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله -  صلى الله عليه وسلم-: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا)، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) قال: ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي: (يا عمر أتدري من السائل؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم .

     نقف مع هذا الحديث العظيم الذي بين فيه النبي - صلى الله عليه وسلم- مراتب الدين، ونخصص وقفتنا مع ما يتعلق بأمر الإيمان والاعتقاد.

 معنى الإيمان بالله:

   الإيمان بالله: هو الاعتقاد الجازم بتوحيد الله تعالى في ربوبيته بأنه رب كل شيء ومليكه، وهو الخالق وحده، و المدبر للكون كله، و المتصرف في الخلق، و أنه هو الذي يعبد دون ما سواه، فكل ما سواه باطل، له سبحانه وتعالى الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وهو المتصف بصفات الكمال، و المنزه من كل عيب ونقص - سبحانه وتعالى-.

   فهذا الإيمان هو التوحيد الذي اصطلح أهل العلم على تقسيمه إلى أقسام ثلاثة:

   توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، و توحيد الأسماء و الصفات.

أولا: توحيد الربوبية:

    وهو توحيد الله تعالى بأفعاله، فيؤمن العبد بأن الله تعالى واحد موجود، وهو وحده رب كل شيء ومليكه، وأنه خالق للكون كله، وهو المتصرف فيه، وهو المحيي المميت، الرزاق ذو القوه المتين، ليس له شريك في ملكه، ولم يكن له ولي من الذل، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، ولا سمي له، ولا مماثل، ولا مضاد، ولا منازع له في شيء من معاني الربوبية، ومقتضيات أسمائه وصفاته.

   فيجب على العبد أن يؤمن بهذا التوحيد، ويقر به في قلبه؛ حتى يظهر أثر ذلك عليه، والقرآن الكريم مليء بالآيات المشيرة إلى هذا التوحيد الجليل، يقول – سبحانه-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)) [الفاتحة 2.3.4]، ويقول – سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) [الذاريات 58]، ويقول – سبحانه-: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)) [يس 82.83]، ويقول – سبحانه-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40))  [الروم.40]، يقول – سبحانه-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164))، ويقول – سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)) [البقرة 21.22].

    ويقول - سبحانه وتعالى- (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)) [النمل 60.61]، ويقول – سبحانه -: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)) [النمل 62.65].

    وغير هذه الآيات كثير وفي تقرير هذا التوحيد جاءت أحاديث كثيرة يفتتح النبي - صلى الله عليه وسلم- به في أدعيته فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه قال في دعاء له: (اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب و النوى، منزل التوراة و الإنجيل و القرآن، أعوذ بك من كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، و أنت الآخر فليس بعدك شي، و أنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء: اقض عني الدين وأغنني من الفقر) وهكذا كان - صلوات الله وسلامه عليه- يفتتح في أدعيته بالإقرار بربوبية ربه - سبحانه وتعالى-.

 

 

الوقفة الثانية:

     هذا التوحيد مفطور في الخلق بأن الإنسان يجد في فطرته بأن الله ربه وخالقه ومحييه ومميته ورازقه و المتصرف في أمره، ولا يستطيع أحد دفع ذلك من نفسه كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ويقول - صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين).

    ويقول – سبحانه-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)) [ الروم 30]، ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله-: (فإن الفطرة تتضمن الإيمان بالله، والإنابة إليه، وهو معنى لا إله إلا الله، فإن الإله يعرف ويعبد)، حتى أهل الجاهلية كانوا يقرون بذلك يقول – سبحانه-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ (61)) [العنكبوت 61]، لكن لم يستفيدوا من هذا الإقرار فيعبدوه وحده، فأشركوا معه غيره.

    (وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به، أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل - عليهم السلام- فيما حكى الله عنهم قال تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10))  [سورة إبراهيم 10]، وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقناً به في الباطن، كما قال له موسى - عليه السلام-: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102)) [الإسراء 201]، وقال تعالى منع وعن قومه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)) [النمل 14]، ولهذا قال: وما رب العالمين؟ على وجه الإنكار له تجاهل العارف فقال موسى: (قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)) [الشعراء 24 – 28].

الوقفة الثالثة:

·              ثمرات توحيد الربوبية وفوائده:

    الإقرار بهذا التوحيد، بأن الله تعالى هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبر للكون كله، وهو رب الأولين والآخرين، وباعث الخلق أجمعين، وهو القاهر فوق عباده، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض، وهو الذي جعل لهم الأرض مهداً يتقلبون فيها، ويمشون في مناكبها، وهو الذي ينزل الماء فيجريه أنهاراً، ويرزقهم من كل الثمرات.

    ولهذا الإقرار فوائد، وثمرات من أعلاها:

-    أن يقوده هذا التوحيد إلى التوحيد الأعظم، وهو توحيده في عبادته، فلا يعبد رب سواه.

-    أنسه به، وطمأنينته بذكره، فلا تؤثر فيه المؤثرات، ولا تخدش توحيده الدعايات، فيتوجه بدعائه واستغاثته إلى ربه ومولاه، لا إلى غيره من المخلوقين الضعفاء.

-    إيمانه بما يقضيه، ويقدره عليه، فهو النافع الضار، لم يكن ليصيبه ما أخطأه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيتحمل العبد ما يواجهه من مصائب، وعوائق، وعقبات.

-    قوة توكله عليه، واستعانته به في أموره كلها، من الرزق، و الشفاء، فهو الشافي الكافي، وخزائنه ملأى، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فيستغني بخالقه عن خلقه.

 

 

 

 

 

 

 

 



بحث عن بحث