معالم الحلال والحرام ( 2-2 )

 

 

الوقفة الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه).

    هذا مثل ضربه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن وقع في الشبهات، وأنه يقرب وقوعه في الحرام المحض، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المحرمات كالحمى الذي يحميه الملوك، ويمنعون غيرهم من قربه، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حول مدينته اثني عشر ميلا حمى محرما لا يُقطع شجره، ولا يُصاد صيده، والله - سبحانه وتعالى- حمى هذه المحرمات، ومنع عباده من قربانها، وسماها حدوداً، فقال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا)(1).

    قال ابن رجب - رحمه الله-: (فلذلك من تعدى الحلال، ووقع في الشبهات، فإنه قد قارب غاية المقاربة، فما أخلقه بأن يخالط الحرام المحض، ويقع فيه، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات، وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزاً)(2).

      الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب..) هذه جملة عظيمة، أقف معها عدة وقفات:

الأولى: بعد أن ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الموقف الذي ينبغي أن يقفه المسلم من الحلال والحرام المشتبه، بيّن – صلوات الله وسلامه عليه – أن مصدر هذا الموقف هو القلب، فإن كان صالحاً صلحت بقية الأعضاء والجوارح، وإن كان فاسداً فسدت بقية الأعضاء والجوارح، ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم جنود طائعون له لا يخالفونه في شيء، ولذا لا ينفع عند الله - سبحانه وتعالى- إلا القلب السليم، كما قال: (إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(3).

    الخامسة: اعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يهتم بالقلب اهتماماً كبيرًا، ويرعاه رعاية تامة، فقد كان يكثر في دعائه: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك)(4)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول عند قسمه ويمينه: (لا ومقلّب القلوب)(5)، وكان يقول - عليه الصلاة والسلام-: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء)(6)، كل ذلك لأن القلب محل الإيمان واليقين، ومصدر السعادة والشقاوة.

    السادسة: أن القلوب تلين وتقسو، فتكون في حالة قساوتها كالحجارة، أو أشد قسوة، فتبعد عن الله تعالى، وعن رحمته، وعن طاعته، وأبعد القلوب عن الله القلب القاسي،  الذي لا ينتفع بتذكير، ولا يلين لموعظة، ولا يفقه مقالة، ولا يعتبر بالأحداث، ولا يتعظ بالقرآن، فمن كان كذلك فهو يحمل في قلبه حجرا صلدا لا فائدة منه، وبناء على هذا فتليين القلوب لها أسباب، من أهمها:

1-  قراءة القرآن الكريم، والاستماع إليه، يقول - سبحانه وتعالى-: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)(7)، ويقول - جل وعلا-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)(8).

فبالقرآن الكريم حياة القلوب، وسعادتها، وطمأنينتها، وبالغفلة عنه شقاؤها، وغفلتها، وبُعدها عن خالقها.

2-  ومن أسباب تليين القلوب تذكّر الموت، وزوال الدنيا، والانتقال للأخرى، ومن أعظم ما يقسي القلوب الغفلة عن الآخرة، ونسيان الموت، والانشغال بالدنيا، يقول - سبحانه وتعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(9).

3-  ومن أسباب تليين القلوب: الاعتبار بما جرى، ويجري للأمم الكافرة والضالة من الهلاك والدمار، يقول الله تعالى: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(10).

4-  ومن أعظم ما يلين القلوب ويصفّيها من شوائبها ذكر الله تعالى، يقول - سبحانه وتعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(11)، ويقول (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً)(12).

 


 


(1)    سورة البقرة، الآية: 187.

(2)    جامع العلوم والحكم 1/208.

(3)    سورة الشعراء، الآيتان 88، 89.

(4)    رواه ابن ماجه في المقدمة، باب فيما أنكرته الجهمية 1/72، ح199.

(5)    رواه البخاري في كتاب القدر، باب يحول بين المرء وقلبه 5/2069، رقم الحديث 6617.

(6)    رواه الإمام أحمد في المسند 7/357، 6/251، ح 25602، وروى نحوه ابن ماجه في المقدمة، باب فيما أنكرته الجهمية 1/72، ح199.

(7)    سورة ق، الآية: 45.

(8)    سورة الزمر، الآية: 23.

(9)    سورة آل عمران، الآية: 185.

(10)    سورة الحج، الآيتان: 45، 46.

(11)    سورة الرعد، الآية: 28.

(12)    سورة الأنفال، الآية: 2.

 

 

 

 

 



بحث عن بحث