معالم الحلال والحرام ( 1 – 2 )

 

 

  عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الحلال بيّن، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) متفق عليه(1).

*        *        *

أهمية الحديث:

   هذا النص الكريم من المصطفى الكريم نصٌّ عظيم القدر، جليل المنزلة، كثير الفوائد، مليء بالأحكام والحكم، أصل من أصول الدين، يقول الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله-: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(2)، وحديث النعمان بن بشير: (الحلال بيّن والحرام بيّن)، وعن إسحاق بن راهويه قال: أربعة أحاديث هي من أصول الدين، وذكر منها حديث: (الحلال بيّن والحرام بيّن)(3)، أي: هذا الحديث.

وفي هذا الحديث من الفوائد شيء كثير، نفق منه عند الوقفات الآتية:

     الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس...).

يقول ابن رجب الحنبلي – رحمه الله-: (معنى ذلك: أن الحلال المحض بيّن لا اشتباه فيه، وكذلك الحرام المحض، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس هل هي من الحلال أم من الحرام، وأما أهل العلم فلا تشتبه عليهم) اهـ(4)، ويعلمون ذلك من الحلال أم من الحرام، وإن اشتبه بعض المسائل على بعضهم، لكنها لا تخفى عليهم جميعا، يوضح هذا ما قاله العلامة ابن رجب - رحمه الله تعالى-:

   (وحاصل الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب، وبيّن فيه للأمة ما تحتاج إليه من حلال أو حرام، كما قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)(5)، وغير ذلك من الآيات في هذا الباب، ووكل – سبحانه- بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما قال – سبحانه-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(6)، وما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أكمل له ولأمته الدين، ولهذا أنزل عليه بعرفة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً)(7)، قال أبو ذر - رضي الله عنه-: (توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ترك لنا منه علما)(8).

ثم قال – أي ابن رجب – رحمه الله-: (وفي الجملة ما ترك الله ورسوله حلالاً إلا مبيّنا، ولا حراماً إلا مبيّنا، لكن بعضه أظهر بيانا من بعض، فما ظهر بيانه واشتهر وعلم من الدين بالضرورة من ذلك لم يبق فيه شك، ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر في الإسلام، وما كان بيانه دون ذلك فمنه ما يشتهر بين حملة خاصة، ومنه ما لا يشتهر بين حملة الشريعة أيضاً، فاختلفوا في تحليله وتحريمه، لكن مع هذا لا بد في الأمة من عالم يوافق قوله قول الحق، فيكون هو العالم بهذا الحكم، وغيره لا يكون عالماً به ومشتبها عليه، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يظهر أهل باطلها على أهل الحق فيها، فلا يكون الحق مهجوراً غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يعلمهن كثير من الناس)، فدلّ على أن من الناس من يعلمها، وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها، وليست مشتبهة في نفس الأمر، فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء)(9).

   وعليه فلا يوجد أمر من أمور الحياة إلا وقد بيّن الإسلام الحكم فيه، وإن خفي على كثير من الناس، لكن لا يخفى بذاته، فالله - سبحانه وتعالى- لا يكلف الناس بأمر لا يعرف حكمه أحد منهم، فلله الحمد والمنة على هذه النعمة الكبيرة، فالمسلم في هذه الحياة لا يعبد الله تعالى إلا على بصيرة من أمره.

    الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).

  في هذه الجملة يرسم لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهج التعامل في الأمور الثلاثة كلها، ويبين لنا كيفية العمل تجاهها، فالحلال بيّن لا اشتباه فيه، فيعمل به، والحرام بين لا اشتباه فيه، فيجتنب ويترك، وأما ما كان مشتبها غير متضح للفرد أهو من الحلال أم من الحرام، فهنا قد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - المنهج الذي يجب أن يتبع، والآخر الذي يجب أن يترك، فالواجب على المسلم أن يجتنب ما كان مشتبهاً، وحينئذ ستبرئ لدينه وعرضه، إنه طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين، فسلم دينه من النقص، وعرضه من القدح، أما الشخص الآخر الذي وقع في هذا المشتبه فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه وقع في الحرام.

  وقد ذكر ابن رجب – رحمه الله – لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من وقع في الحرام) معنيين، كلاهما سائغ، حيث قال:

الأول: أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدرج والتسامح، ويعضد هذا المعنى ما روي في الصحيحين قوله: (ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان)(10).

والمعنى الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده لا يدري أهو حلال أو حرام، فإنه لا يأمن أن يكون حراماً في نفس الأمر، فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام، ويعضد هذا ما في رواية ابن عمر للحديث، وفيه: (فمن اتقاها – أي المشتبهات – كان أنزه لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام)(11) اهـ(12).

فعلى المسلم أن يبتعد كل البعد عن المشتبهات، ما لم يتبين له أهي من الحلال أم الحرام، حتى لا يقع في الحرام، وبالتالي يكسب الإثم، ويخسر الأجر.

 


 


(1)    رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/41، ح52، ورواه مسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ح 1599، 3/1219.

(2)    نقلا من جامع العلوم والحكم 1/61-62.

(3)    انظر: المصدر السابق.

(4)    جامع العلوم والحكم 1/194.

(5)    سورة النحل، الآية: 69.

(6)    سورة النحل، الآية: 44.

(7)    سورة المائدة، الآية: 3.

(8)    رواه أحمد في المسند 5/53، 162، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/263، 264، وقال: (رواه أحمد والطبراني ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، وهو ثقة، وفي إسناده أحمد من لم يُسَمّ).اهـ.

(9)    جامع العلوم والحكم 1/196، 197، بتصرف.

(10)    رواه البخاري في كتاب البيوع، باب الحلال بيّن والحرام بيّن 2/611، ح 2051، وهذه الرواية ليست عند الإمام مسلم، بل هي عند البخاري فقط.

(11)    ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/74، وقال: (رواه الطبراني في الأوسط، وفي إسناده سعد بن زنبور، قال: أبو حاتم: مجهول).

(12)    جامع العلوم والحكم 1/205، 206.

 

 

 

 



بحث عن بحث