من موجبات اللعن

 

 

عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه قال: حدثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غيّر منار الأرض) رواه مسلم(1).

هذا حديث عظيم القدر، يحوي وقفات عديدة، وحكم عظيمة، وفوائد كثيرة،  أعرضها في الوقفات التالية:

الوقفة الأولى: هذا الحديث له قصة، ذكرها الإمام مسلم في صحيحه بطريق آخر، عن أبي الطفيل قال: سُئل عليٌّ - رضي الله عنه-، أخصّكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بشيء؟ فقال: ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء لم يعمّ به الناس كافة، إلا ما كان في قراب سيفي هذا، قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً) اهـ(2)، كما روي بألفاظ أخرى.

الوقفة الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن) اللعن: هو البعد عن مظان الرحمة ومواطنها، واللعين والملعون: من حقت عليه اللعنة، أو دُعي عليه بها، قال ابن الأثير - رحمه الله-: أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله. ومن الخلق: السب والدعاء(3).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (إن الله تعالى يلعن من استحق اللعنة بالقول، كما يصلي سبحانه على من استحق الصلاة من عباده، يقول - سبحانه وتعالى-: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)(4)، ويقول –سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً)(5)، وقال - جل من قائل- : (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً)(6). اهـ)(7).

فمن خلال ما سبق يتضح لنا أن اللعن من قبل الله - سبحانه وتعالى- هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله – سبحانه-، ومن جانب الخلق بعضهم مع بعض هو: السب، والشتم، والدعاء،  فالرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث يخبرنا أن من عمل عملاً من الأعمال المذكورة فهو مستحق لأن يطرد من رحمة ربه - سبحانه وتعالى-، أعاذنا الله من ذلك.

الوقفة الثالثة: في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله من ذبح لغير الله...)،

قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى-: (المراد أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن يذبح باسم غير اسم الله تعالى، كمن يذبح للصنم، أو للصليب، أو لموسى، أو لعيسى - عليهما السلام-، أو للكعبة، ونحو ذلك، وكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة، سواء كان الذابح مسلماً، أو نصرانياً، أو يهودياً، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله والعبادة له كان ذلك كفراً، فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً) اهـ(8).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)(9)، ظاهره أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقال:  هذه الذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحنا للحم وقلنا عليه: باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فكذلك الشرك بالصلاة لغيره، والنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسم غيره في فواتح الأمور، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب والنجوم بالذبح، ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة ما نعان) اهـ(10).

الوقفة الرابعة: اعلم أن الذبح عبادة من العبادات يجب أن تصرف لله - سبحانه وتعالى- فيتقرب بها إليه، وأن لا تصرف إلى غيره، فإذا صرفت نية الذبح لغير الله تعالى فقد يكون شركاً، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة أعرض بعضها منها:

فمن ذلك قوله - سبحانه وتعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(11).

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله-: (يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)(12)، أي: أخلص له صلاتك وذبيحتك، فإن المشركين يعبدون الأصنام، ويذبحون لها، فأمر الله بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية، والعزم على الإخلاص لله تعالى، قال مجاهد في قوله: (صَلاتِي وَنُسُكِي) قال: النسك: الذبح في الحج والعمرة، وقال سعيد بن جبير: ذبحي) اهـ(13).

ومن الأدلة على ما ذكر أيضاً من ضرورة إخلاص الذبح لله تعالى قوله - جل وعلا-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)(14)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (أمره الله تعالى أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما: الصلاة والنسك الدالتان على القرب، والتواضع، والافتقار، وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عدته، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر) اهـ(15).

وقال غيره: أي: فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه، وشرّفك وصانك من منن الخلق، مراغما لقومك الذين يعبدون غير الله، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفاً لهم في النحر للأوثان(16).

الوقفة الخامسة: ورد عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أحاديث في بيان أهمية الذبح لله - عز وجل-.

فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد، عن طارق بن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب)، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: (مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرّب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرّب، قال: ما عندي شيء، قالوا: قرّب ولو ذبابا، فقرّب ذبابا، فخلوا سبيله فدخل النار، وقالوا للآخر: قرّب، قال: ما كنت لأقرّب لأحد شيئا دون الله - عز وجل-، فضربوا عنقه، فدخل الجنة)(17).

الوقفة السادسة: أن الذبح أنواع، فمنها ما هو عبادة محضة تقرب إلى الله - سبحانه وتعالى-، وذلك كالنسك في الحج والأضحية، ومنها ما لأكل اللحم، فهذا يجب على المسلم أن يقصد به التقوّي على عبادة الله تعالى، وأن يذبحه على الطريقة الشرعية، بأن يستقبل القبلة حال النحر، وأن يذكر اسم الله.

ومن الذبح ما هو حرام لا يجوز أكله، بل قد يصل إلى الشرك، والعياذ بالله، كمن يخلّ بشيء من الشروط الشرعية حال الذبح.

 والأشد من ذلك أن يصرف نيته في الذبح لغير الله - عز وجل-، كأن يتقرب به لصنم، أو قبر، أو ول،ي أو لشجرة، أو لمكان، ونحو ذلك، مما يفعله كثير من جهلة المسلمين عندما يصاب بمصيبته، أو يبتلى بمرض، أو عندما يرجو تفريج كربة من الكربات، أو حلّ مشكلة من المشكلات، مدّعياً أن هذا القبر، أو ذاك الولي، أو تلك الشجرة، لديهم القدرة على تفريج كربته، وحل مشكلته، أو يتشفعون عند الله - سبحانه وتعالى له-، وهذا كله ونحوه من تلاعب الشيطان بابن آدم؛ ليغويه، وليرديه في المهالك، وليكون شريكاً له في جهنم.

الوقفة السابعة: ينبغي للمسلم أن يتجنب مواطن الشبهة؛ لئلا يقع فيها، ومن ذلك أن يبتعد عن المكان الذي يذبح فيه لغير الله - عز وجل- كما قال سبحانه وتعالى: (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)(18).

وروى أبو داود – بإسناد على شرط الشيخين – عن ثابت بن الضحاك – رضي الله عنه -  قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة – وهو مكان أسفل مكة من جهة يلملم – فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟) قالوا: لا، قال: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟) قالوا: لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)(19).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (هذا يدل على أن الذبح لله في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغير الله معصية) اهـ(20).

الوقفة السابعة: أن المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله من لعن والديه...)، الدعاء بالطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى لمن لعن والديه مباشرة، أو بغير مباشرة، كما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن من الكبائر شتم الرجل والديه)، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: (نعم، يسبّ أبا الرجل فيسب أباه، و يسبّ أمه فيسبّ أمه)(21).

الوقفة الثامنة: أن لعن الوالدين، أو سبّهما، أو رفع الصوت عليهما، أو الإعراض عنهما، أو عدم تلبية طلبهما، أو إزعاجهما، أو النفرة من أوامرهما وعدم الامتثال لها، ونحو ذلك كبيرة من أعظم الكبائر الموجبة للعقاب في الدنيا والآخرة، يقول سبحانه وتعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً)(22).

وروى البخاري ومسلم وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور)(23).

وروى الإمام أحمد وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاثة حرّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن خمر، والعاق لوالديه، والديوث الذي يقر الخبث في أهله)(24).

الوقفة التاسعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله من آوى محدثاً...).

والمراد بذلك: منعه من أن يؤخذ منه الحق الذي وجب عليه، قال ابن الأثير - رحمه الله-: (قوله: (محدثاً) يروى بكسر الدال وفتحها، فمعنى الكسر: من نصر جانيا، وآواه، وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين من يقبض منه، ومعنى الفتح: الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه: الرضى به، والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر عليها فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه) اهـ(25).

الوقفة العاشرة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله من غيّر منار الأرض...).

قال النووي - رحمه الله-: (منار الأرض: علامات حدودها)اهـ(26).

وقيل تغييرها بتقديمها، وتأخيرها، فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (من ظلم شبراً من الأرض طوّقه يوم القيامة من سبع أرضين)(27)، رواه البخاري ومسلم(28).

 


 


(1)    رواه مسلم في كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله، ح 1978، 3/1567.

(2)    رواه الإمام مسلم في كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله، ح 1978، 3/1567.

(3)    نقلاً من تيسير العزيز الحميد ص 190، لسليمان بن عبد الله آل الشيخ.

(4)    سورة الأحزاب، الآية: 43.

(5)    سورة الأحزاب، الآية: 61.

(6)    سورة الأحزاب، الآية: 61.

(7)    نقلاً من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص125، عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.

(8)    صحيح مسلم بشرح النووي، المجلد الخامس 6/122.

(9)    سورة البقرة، آية: 173.

(10)     نقلاً من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص125، 126، عبد الرحمن بن حسن.

(11)     سورة الأنعام، الآيتان: 162، 163.

(12)     سورة الكوثر، الآية: 2.

(13)     نقلاً من: تيسير العزيز الحميد، ص 187.

(14)     سورة الكوثر، الآية: 2.

(15)     نقلاً من: تيسير العزيز الحميد ص 188، 189.

(16)     المصدر السابق.

(17)     رواه الإمام أحمد في الزهد ص 15 عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي، قال عبد القادر الأرناؤوط عن هذا الحديث: (وهو موقوف صحيح).

(18)     سورة التوبة، الآية: 108.

(19)     رواه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، ح 3313.

(20)     نقلاً من كتاب: تيسير العزيز الحميد ص201.

(21)     رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، ح9-، 1/92.

(22)     سورة الإسراء، الآيات: 23-25.

(23)     رواه البخاري في كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر 4/1893، ح 65976، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، ح 87، 1/91.

(24)     رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر 2/181 رقم الحديث 5349.

(25)     نقلاً من كتاب: تيسير العزيز الحميد ص 192.

(26)     شرح النووي على صحيح مسلم، المجلد الأول، 1/122.

(27)     نقلاً من كتاب: تيسير العزيز الحميد ص 193.

(28)     رواه البخاري، في كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض 2/735، ح2453، ورواه مسلم في كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض، المجلد الرابع، 10/225، ح 142.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



بحث عن بحث