الدعوة إلى التوحيد (2-2)

الوقفة الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإن هم أطاعوك لذلك) أي: شهدوا وانقادوا لذلك، فإذا أخبرتهم بضرورة التوحيد بالنطق بالشهادتين، وانقادوا لذلك، وشهدوا بهاتين الشهادتين، فانتقل إلى الأمر الآخر.

وفي رواية أخرى عند ابن خزيمة - رحمه الله-: (فإن هم أجابوا لذلك)، وفي رواية: (فإذا عرفوا ذلك)، وكل هذه الألفاظ لا يختلف معناها، فهي بمعنى واحد، وتدل على أهمية التدرج في الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى-، والبدء بالأهم فالمهم، إذ بعد الإقرار بالشهادتين، وبعد توحيد الله ينتقل إلى ما بعدها من أركان الإسلام وأصوله.

الوقفة الخامسة: قوله: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة)، فيه دليل على أهمية الصلاة، وأنها في الوجوب والفرضية تلي الشهادتين، كما أن فيه دليلاً على فرضية الصلاة على كل مسلم ومسلمة بالغين عاقلين، وأن الفرض خمس صلوات في كل يوم وليلة. ومن هذا نفهم أن ما سوى تلك الخمسة من السنن، والرواتب، والوتر، وسائر التطوعات، ليست فرضاً حتماً، ولكنها مستحبة، تتأكد في حق كل مسلم ومسلمة، كما ورد فضلها في نصوص كثيرة.

الوقفة السادسة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإن هم أطاعوك لذلك) أي: آمنوا وصدقوا بأن الله افترضها عليهم وفعلوها، فلو بادروا بالامتثال دون القول فلا بأس حينئذ، بخلاف الشهادتين، فإنه يشترط التلفظ بهما، كما سبق بيانه.

الوقفة السابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم...) في هذا النص عدة مسائل هي:

الأولى: أن الغني المقصود في الحديث هو من ملك نصابا من الأموال النامية التي تجب فيها الزكاة، ويطلق عموماً على كل من ملك ما لا يفي بحاجاته، ولو لم يبلغ نصابا.

أما الفقير فهو من ليس له مال ولا كسب حلال لائق به، يقع موقعها من كفايته من مطعم، وملبس، ومسكن، وسائر ما لابد لنفسه، ولمن تلزمه نفقته.

الثانية: استدل بعض العلماء بهذه الجملة على أن الزكاة تدفع للإمام أو نائبه، ولكن رجح كثير من الفقهاء أنه يستحب للإنسان أن يلي تفرقتها بنفسه، قال الإمام أحمد: (أعجب إلي أن يخرجها بنفسه، وإن دفعها إلى السلطان فجائز).

وكذلك استدل كثير من أهل العلم بقوله - صلى الله عليه وسلم-: (فترد على فقرائهم) أنه يجوز إعطاء الزكاة كلها، أو بعضها، إلى صنف واحد من الأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل...)(1)

فإذا أعطى الإنسان زكاته لفقير واحد، أو لمجموعة فقراء، أو وزعها على فقراء ومساكين، ومجاهدين في سبيل الله، ونحو ذلك، فكل ذلك جائز - إن شاء الله تعالى-، فما على المزكي إلا أن يتحرى بدفع زكاة ماله إلى من يستحقها؛ لأجل أن تأخذ موقعها، ولا يعطيها أي شخص لم يتأكد أنه من أهل الزكاة.

الثالثة: استدل بعض أهل العلم بقوله - صلى الله عليه وسلم-: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، أنه لا يجوز صرف الزكاة إلا في البلد نفسه، فلا ينقل المسلم زكاته إلى بلد آخر، لكن كثيراً من المحققين، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يرى خلاف هذا، حيث قال: (يجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية). اهـ، وذلك كأن يكون في البلد الآخر أقرباء محتاجين، أو تظهر مجاعة ظاهرة في بلد من بلدان المسلمين، أو يقوم الجهاد الإسلامي في مكان معين فتصرف بعض الزكاة فيه....وهكذا.

ومع القول بجواز نقل الزكاة إلا أن العلماء – رحمهم الله تعالى – متفقون على أن الأصل في الزكاة أن تفرق في بلد المال الذي وجبت فيه، كما أنهم متفقون أيضاً على أن أهل البلد إذا استغنوا عن الزكاة كلها، أو بعضها؛ لانعدام الأصناف المستحقة، أو لقلة عددها وكثرة مال الزكاة جاز نقلها إلى غيرهم.

فما على المسلم إلا أن يتحرى، ويجتهد، ويحرص على دفع زكاة ماله إلى مستحقيها، فإن وجدوا في البلد نفسه فهم أولى ولا شك، وإلا فينقلها إلى مكان آخر يوجد فيه مستحقون.

الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم...).

ففي ذكر الزكاة بعد الشهادتين والصلاة دليل على أنها – أي الزكاة – أوجب الأركان بعد الصلاة، وكثيراً ما ترد الصلاة والزكاة في القرآن الكريم مقترنتين؛ وذلك لعظم شأن الزكاة، يقول سبحانه وتعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)(2).

وقد ورد الحث في القرآن والسنة عليها، والترغيب فيها، والوعيد الشديد لمن تركها، من ذلك قوله سبحانه وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)(3)، وقوله - جل وعلا-: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)(4)، وغير ذلك كثير.

وفي دفع الزكاة فضل عظيم عند الله - عز وجل-، كما أنها تطهر المزكي من أنجاس الذنوب، وتنقّيه من أوساخها، وتزكي أخلاقه بالتحلي بالجود والسخاء، وتبعده عن الشح والبخل، وتطهر ماله من الآفات، وتنميه، وغير ذلك من الحكم العظيمة، والفوائد الجليلة، التي لا يدركها إلا من قام بحق الله في هذا المال.

الوقفة الثامنة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإياك وكرائم أموالهم...) والمقصود بالكرائم: المال النفيس، والمقصود به هنا: جامعة الكمال الممكن في حقها، من: غزارة لبن، وجمال صورة، أو كثرة لحم وصوف، فكأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- قال: إياك أن تأخذ خيار المال النفيس، بل خذ الوسط، كما أنه لا ينبغي أن يخرج ربّ المال شر المال وهزيله، وضعيفه، بل يخرج الوسط، وإن طابت نفسه بإخراج خياره فهذا أطيب وأكثر أجراً.

الوقفة التاسعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، وهنا مسألتان:

الأولى: أن ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم- هذه الجملة – والتي فيها تحذير شديد من دعوة المظلوم – بعد قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإياك وكرائم أموالهم) إشارة منه - صلى الله عليه وسلم- إلى أن أخذ خيار المال ظلم لصاحب المال، وإجحاف في حقه.

الثانية: في هذا تحذير صريح من النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الظلم، فمعنى كلامه - صلوات الله وسلامه عليه-: احذر دعوة المظلوم، واجعل بينك وبينها وقاية بفعل العدل، وترك الظلم؛ لئلا يدعو عليك المظلوم فتستجاب دعوته، فليس بينها وبين الله حجاب، بل يقبلها - سبحانه وتعالى-، وفي هذا تحذير من الظلم بجميع أنواعه، سواء في أخذ الزكاة، أو في جميع الولايات والمسؤوليات، فليحذر كل مسؤولٍ من الظلم، فدعوة المظلوم مستجابة، حتى ولو كان فاجراً، أو فاسقاً، كما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً: (دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه)(5)، قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن.


(1) سورة التوبة، الآية: 60.

(2) سورة البقرة، الآية: 43.

(3) سورة التوبة، الآية: 103.

(4) سورة المزمل، الآية: 20.

(5) رواه الإمام أحمد في مسنده 3/56 ح 8577.

 

 

 

 

 

 



بحث عن بحث