شرح حديث: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا....)

 

قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الفضائل من صحيحه: حدثني محمد بن حاتم حدثنا ابن مهدي حدثنا سليم عن سعيد بن ميناء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي)).

المبحث الأول: التخريج:

هذا الحديث انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه من حديث جابر رضي الله عنه ولم يكرره، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) فقال: حدثنا عفان حدثنا سليم بن حيان حدثنا سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره بمثل متنه عند مسلم إلاّ أن فيه تقديم الفراش على الجنادب.

وأخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه من طريقين إليه، من طريق أبي الزناد عن الأعرج عنه، ومن طريق معمر عن همام عنه. وأخرجه البخاري عن أبي هريرة في (كتاب الرقاق)، وأخرج طرفاً منه في (كتاب أحاديث الأنبياء) كلاهما من طريق أبي الزناد عن الأعرج عنه. وأخرجه الترمذي في آخر (كتاب الأمثال) من جامعه من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه من ثلاث طرق إليه: من طريق معمر عن همام عنه، ومن طريق أبي الزناد عن الأعرج عنه، ومن طريق جعفر عن يزيد بن الأصم عنه.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: محمد بن حاتم، وهو محمد بن حاتم بن ميمون البغدادي السمين، صدوق ربما وهم، وكان فاضلاً من العاشرة، مات سنة خمس أو ست وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال مسلم وأبي داود. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن وكيع، وابن عيينة، وابن علية، وابن مهدي، وغيرهم سماهم. وروى عنه مسلم، وأبو داود، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن عدي، والدار قطني، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه مسلم ثلاثمائة حديث.

الثاني: ابن مهدي قال الحافظ في (التقريب): عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري مولاهم أبو سعيد البصري، ثقة، ثبت، حافظ، عارف بالرجال والحديث. قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه. من التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): العنبري وقيل الأزدي مولاهم، أبو سعيد البصري اللؤلؤي الحافظ الإمام العلم. ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: جرير بن حازم، ومالك، وشعبة، والسفيانان، والحمادان، وسليم بن حيان. وجماعة رووا عنه منهم: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعليّ بن المديني، ويحيى بن معين. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول علي بن المديني: إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أحدث عنه، فإذا اختلفا، أخذت بقول عبد الرحمن، لأنه أقصدهما وكان في يحيى تشدد. وقول أحمد بن سنان: سمعت عليّ بن المديني يقول: كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس، قالها مراراً. وقول ابن حبان في (الثقات): كان من الحفاظ المتقنين وأهل الورع في الدين، ممن حفظ، وجمع، وتفقه، وصنف، وحدّث، وأبى الرواية إلاّ عن الثقات. وقول الشافعي: لا أعلم له نظيراً في الدنيا. انتهى. وقال الذهبي في (العبر): الحافظ، أحد أركان الحديث بالعراق.

الثالث: سليم، وهو ابن حيان كما قال النووي. قال الحافظ في (التقريب): ابن حيان ـ بمهملة وتحتانية ـ الهذلي البصري، ثقة من السابعة، ورمز لكونه من رجال البخاري، وأبي داود، والترمذي، وكذا رمز في (تهذيب التهذيب)، وسقط منهما الرمز لمسلم، ولعله من النساخ أو الطابعين. وقال في (تهذيب التهذيب): سليم ـ بالفتح ـ ابن حيان بن بسطام الهذلي البصري، روى عن أبيه، وسعيد بن ميناء، وعمرو بن دينار، وقتادة، ومروان الأصغر، وغيرهم. وعنه: ابنه عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، والنسائي.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سليم بن حيان الهذلي من أهل البصرة، سمع سعيد بن ميناء، ومروان الأصغر عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، وعمرو بن دينار عند البخاري. روى عنه يزيد بن هارون، وعبد الصمد بن عبد الوارث عندهما، ومحمد بن سنان العَوَقي، ويحيى القطان عند البخاري، وعبد الرحمن بن مهدي، وبهز بن أسد، وعبيد الله بن عبد المجيد، وعفان بن مسلم أي عند مسلم. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

الرابع: سعيد بن ميناء، قال في (تهذيب التهذيب): سعيد بن ميناء المكي ويقال المدني، أبو الوليد مولى البختري بن أبي ذياب. ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى النسائي، وقال: روى عن عبد الله بن الزبير، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، والأصبغ بن نباتة، والقاسم بن محمد. وعنه: حنظلة بن أبي سفيان، وسليم بن حيان، وأيوب السختياني، وابن جريج، وابن إسحاق، وعدة. ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي حاتم، والنسائي. وقال في (التقريب): ثقة من الثالثة. انتهى.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع جابر بن عبد الله عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير عند مسلم. روى عنه سليم بن حيان، وحنظلة بن أبي سفيان عندهما، وزيد بن أبي أنيسة، ويعقوب عند مسلم. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

الخامس: الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال الحافظ في (التقريب): جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ـ بمهملة وراء ـ الأنصاري ثم السلمي ـ بفتحتين ـ صحابي ابن صحابي، غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين وهو ابن أربع وتسعين سنة. ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الثالث من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

 

(1) اثنان من رجال الإسناد اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهما: جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، وعبد الرحمن بن مهدي، وقد خرج البخاري في صحيحه لرجال الخمسة إلاّ شيخ مسلم محمد بن حاتم فلم يخرج له شيئاً.

(2) شيخ مسلم محمد بن حاتم بغدادي، وعبد الرحمن بن مهدي وسليم بن حيان بصريان، وسعيد بن ميناء حجازي مكي أو مدني، وجابر رضي الله عنه مدني.

(3) شيخ مسلم محمد بن حاتم لا يشاركه أحد من المحمدين في رجال مسلم في اسم الأب، فهو الوحيد في المحمدين الذي يسمى أبوه حاتماً في رجال صحيح مسلم، وقد خرج عنه مسلم في صحيحه ثلاثمائة حديث، ويوافقه في الاسم واسم الأب شيخ البخاري محمد بن حاتم بن بزيع، وقد روى عنه البخاري في (الصلاة) و(مناقب عثمان) و(عمرة الحديبية)، مات سنة تسع وأربعين ومائتين كما في (الجمع بين رجال الصحيحين) للمقدسي، وذلك من أمثلة النوع المعروف (بالمتفق والمفترق)، قال الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): ثم الرواة إن اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم فصاعداً، واختلف أشخاصهم فهو (المتفق والمفترق)، وقال في شرح النخبة: وفائدة معرفته خشية أن يظن الشخصان شخصاً واحداً.

(4) شيخ مسلم محمد بن حاتم من ذوي الألقاب في المحدثين ولقبه السمين.

(5) شيخ شيخ مسلم عبد الرحمن بن مهدي وصف بصفات هي من أرفع مراتب التعديل، منها قول ابن المديني: كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس. وقول الشافعي: لا أعلم له نظيراً في الدنيا. وقول الذهبي: هو أحد أركان الحديث في العراق.

(6) قال الحافظ في ترجمة ابن مهدي في (تهذيب التهذيب): العنبري وقيل الأزدي مولاهم، أبو سعيد البصري اللؤلؤي. انتهى. فالنسبة في الأول إلى قبيلة وفي الثاني إلى وطن وفي الثالث إلى حرفة وهي بيع اللؤلؤ. قال ابن الأثير في (اللباب في تهذيب الأنساب): اللؤلؤي ـ بضم اللامين بينهما واو ساكنة وفي آخرها واو ثانية ـ هذه النسبة لجماعة يبيعون اللؤلؤ منهم: الإمام أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن اللؤلؤي البصري، ثم ذكر جماعة ينسبون هذه النسبة.

(7) سليم ـ بفتح السين ـ بن حيان هو الشخص الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الصحيحين، أما من يسمى سليم ـ بضم السين ـ فهم كثيرون، قال الحافظ ابن حجر في كتابه (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه): سليم ـ بالضم ـ كثير، وبالفتح سليم بن حيان وهو في الصحيحين، لم يوجد فيهما بفتح السين وكسر اللام غيره. انتهى. وهذا النوع يسمى في علم المصطلح (المؤتلف والمختلف) وهو: أن تتفق الأسماء خطاً وتخلتف نطقاً سواء كان مرجع الاختلاف النقط أو الشكل.

(8) الصحابي في الحديث هو أحد الصحابة السبعة المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم  الذين زاد حديثهم على ألف حديث وقد نظمهم السيوطي في ألفيته فقال:

والمكثرون في رواية الأثر

 

أبو هريرة يليه ابن عمر

وأنس والبحر كالخدري

 

وجابر وزوجة النبي

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) هذا الحديث اشتمل على تمثيل ما يقوم به صلى الله عليه وسلم  من التحذير من النار والتنفير من أسباب الوقوع فيها، وإيضاح أسباب السلامة منها، برجل أوقد ناراً فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وجعل يذبُّهن عنها، وهو تشبيه مركب، ولهذا قال الحافظ في (الفتح): والمراد تمثيل الجملة بالجملة لا تمثيل فرد بفرد. وقال أبو بكر بن العربي في شرح جامع الترمذي: المعنى في هذا الحديث بديع، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم  فيه المثل لثلاثة بثلاثة (أحدها) تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم  برجل، (الثاني) تمثيل الأمة بالفراش وشبهها بما يتهافت بالنار، (الثالث) ضرب النار في الدنيا مثلاً لنار الآخرة التي نار الدنيا جزء منها. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: ومقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم  شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك، مع منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم، بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه، وكلاهما حريص على هلاك نفسه ساع في ذلك بجهله. وقال الغزالي كما في (فتح الباري): التمثيل وقع على صورة الإكباب على الشهوات من الإنسان بإكباب الفراش على التهافت في النار، ولكن جهل الآدمي أشد من جهل الفراش، لأنها باغترارها بظواهر الضوء إذا احترقت انتهى عذابها في الحال، والآدمي يبقى في النار مدة طويلة أو أبدا، والله المستعان. وقال الحافظ: وحاصل التمثيل: أنه شبه تهافت أصحاب الشهوات في المعاصي التي تكون سبباً في الوقوع في النار، بتهافت الفراش بالوقوع في النار اتباعاً لشهواتها، وشبه ذَبَّه العصاة عن المعاصي بما حذرهم به وأنذرهم بذَبِّ صاحب النار الفراش عنها.

(2) قال النووي في شرح صحيح مسلم: أما الفَراش فقال الخليل: هو الذي يطير كالبعوض. وقال غيره: ما تراه كصغار البق يتهافت في النار. وأما الجنادب فجمع جندب وفيها ثلاث لغات: جندب بضم الدال وفتحها والجيم مضمومة فيهما، والثالثة حكاها القاضي بكسر الجيم وفتح الدال. والجنادب هذا الصرار الذي يشبه الجراد. وقال أبو حاتم: الجندب على خلقة الجراد له أربعة أجنحة كالجرادة وأصغر منها يطير ويصر بالليل صراً شديداً، وقيل غيره. وقال: والحجز جمع حجزة وهي معقد الإزار والسراويل، وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ((وأنا آخذ بحجزكم)) فروي بوجهين: (أحدهما) اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال، و(الثاني) فعل مضارع بضم الذال بلا تنوين، والأول أشهر وهما صحيحان، وأما تفلتون فروي بوجهين: (أحدهما) فتح التاء والفاء واللام المشددة، و(الثاني) ضم التاء وإسكان الفاء وكسر اللام المخففة، وكلاهما صحيح، يقال أفلت مني وتفلت إذا نازعك الغلبة والهرب ثم غلب وهرب. انتهى.

(3) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) ما اتصف به صلى الله عليه وسلم  من الشفقة والرحمة والحرص على نجاة أمته.

(2) كمال نصحه صلى الله عليه وسلم  لأمته وإيضاحه وبيانه أسباب سعادتها ونجاتها.

(3) ضرب الأمثلة في إيضاح ما يراد بيانه.

(4) تنبيه المعلمين والمرشدين إلى الخير إلى سلوك مثل هذه الطريق الناجحة في التعليم والإرشاد.

(5) التحذير من ارتكاب أسباب الوقوع في النار.

(6) تشبيه العصاة بالفراش والجنادب في الجهل وعدم التمييز وتعاطي أسباب هلاك النفس.

(7) الإشارة إلى أن النار محفوفة بالشهوات.

(8) الحث على اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم  والتمسك بما جاء به من الحق والهدى.

(9) التنبيه إلى عدم جواز التعذيب في نار الدنيا.

(10) تنبيه المسلم إلى السعي في خلاص نفسه وغيره من الهلاك.

                                                                                                                                                                                                                                                                                           



بحث عن بحث