حديث ((عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت....))

 

قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب البر والصلة والآداب من صحيحه:حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد الضبعي حدثنا جويرية ـ يعني ابن أسماء ـ عن نافع عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: ((عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)).

المبحث الأول، التخريج:

  أخرج مسلم هذا الحديث عن ابن عمر من طرق هذه إحداها ثم قال عقبها: حدثني هارون بن عبد الله وعبد الله بن جعفر بن يحيى بن خالد جميعاً عن معن بن عيسى عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمعنى حديث جويرية، وحدثنيه نصر بن عليّ الجهضمي حدثنا عبد الأعلى عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((عذبت امرأة في هرة أوثقتها فلم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض))، وأخرجه من هذه الطرق الثلاث في (كتاب قتل الحيات وغيرها).

وأخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه أولها في (كتاب الشرب والمساقاة، باب فضل سقي الماء) فقال: حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً، فدخلت فيها النار، قال: فقالوا ـ والله أعلم ـ: لا أنت أطعمتها ولا سقيتها حين حبستها، ولا أنت أرسلتها فأكلت من خشاش الأرض)).

والثاني: في (كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم) فقال: حدثنا نصر بن عليّ أخبرنا عبد الأعلى حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلت النار امرأة في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خَشاش الأرض))، قال: وحدثنا عبيد الله عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

والثالث: في (كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل) فقال: حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء حدثنا جويرية بن أسماء عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)). وأخرجه الدارمي في سننه في (كتاب الرقاق، باب دخلت امرأة النار في هرة) فقال: أخبرنا الحكم بن مبارك أنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دخلت امرأة في النار في هرة فقيل: لا أنت أطعمتها وسقيتها، ولا أنت أرسلتها فتأكل من خشاش الأرض)). وأخرجه البخاري وابن ماجه من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه ضمن حديث الكسوف عن جابر رضي الله عنه ولفظه: ((وعرضت عليَّ النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرّة لها، ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)). وفي رواية أخرى عنه قال: ((رأيت في النار امرأة حميرية سوداء طويلة)) ولم يقل من بني إسرائيل، وفي رواية أخرى عنه: ((وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً)). ورواه ابن ماجه في (سننه)، والإمام أحمد في (المسند) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ مسلم عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد الضبعي ـ بضم المعجمة وفتح الموحدة ـ أبو عبد الرحمن البصري، ثقة جليل من العاشرة، مات سنة إحدى وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عمِّه جويرية بن أسماء، ومهدي بن ميمون، وحفص بن غياث، وابن المبارك، وغيرهم. وعنه البخاري ومسلم، وأبو داود، وروى له أبو داود أيضاً والنسائي بواسطة الذهلي، وأبي بكر محمد بن إسماعيل الطبراني، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن أبي حاتم، وابن قانع، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه البخاري اثنين وعشرين حديثاً، ومسلم سبعة عشر حديثاً.

الثاني: جويرية بن أسماء، قال الحافظ في (التقريب): جويرية: تصغير جارية بن أسماء بن عبيد الضبعي ـ بضم المعجمة وفتح الموحدة ـ البصري صدوق من السابعة، مات سنة ثلاث وسبعين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى الترمذي. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه، ونافع، والزهري، وبديح مولى عبد الله بن جعفر، ومالك بن أنس وهو من أقرانه، وغيرهم. وعنه حبان بن هلال، وحجاج بن منهال، وابن أخته سعيد بن عامر الضبعي، وابن أخيه عبد الله بن محمد بن أسماء، وغيرهم سماهم. وقال: قال ابن معين: ليس به بأس. وقال أحمد: ثقة ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح.

الثالث: نافع وهو مولى ابن عمر، قال الحافظ في (التقريب): نافع أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر، ثقة ثبت فقيه مشهور من الثالثة، مات سنة سبع عشرة ومائة أو بعد ذلك، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة مولاه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في رجال إسناد الحديث السابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

الرابع: عبد الله بن عمر، قال في (التقريب): عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن، ولد بعد المبعث بيسير، واستصغر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة، وكان من أشد الناس اتباعاً للأثر، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو أول التي تليها، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.


 

المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الأربعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ مسلم فإنه لم يرو له الترمذي وابن ماجه، وإلا شيخ شيخه جويرية فلم يرو له الترمذي.

(2) نصف الإسناد الأعلى من أهل المدينة ونصفه الأدنى من أهل البصرة.

(3) نافع مولى ابن عمر من أسفل، وابن عمر مولى نافع من أعلى، فالحديث من رواية مولى من أسفل عن مولى من أعلى. وعبد الله بن محمد شيخ مسلم هو ابن أخي جويرية، وقد روى هذا الحديث عن عمه جويرية.

(4) نصف الإسناد الأدنى الرواية فيه بالتحديث ونصفه الأعلى بالعنعنة.

(5) صيغة تحمل مسلم عن شيخه (حدثني) وصيغة تحمل شيخه عن شيخ شيخه (حدثنا)، ووجه الإفراد في الاصطلاح أن الراوي سمع وحده، ووجه الجمع أنه سمع ومعه غيره.

(6) هذا الإسناد رباعي، والإسناد الرباعي هو أعلى أسانيد صحيح مسلم، بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه أربعة، وليس في صحيحه أعلى من الرباعيات.

(7) هذا الحديث رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما من ثلاث طرق رواه عالياً من هذه الطريق، ورواه نازلاً من الطريقين الأخريين بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في كل منهما خمسة، وتقدم سياقهما في التخريج.

(8) نصف الإسناد الأعلى نافع عن ابن عمر، وفي إحدى الطريقين النازلتين مالك عن نافع عن ابن عمر وهذه السلسلة هي أصح الأسانيد عند البخاري.

(9) المرأة التي ذكرت في الحديث ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) أنه لم يقف على تسميتها، وهذا من أمثلة المبهم في المتن.

(10) هذا الحديث أورده مسلم في (كتاب البر والصلة والآداب) وأورده في (كتاب قتل الحيات ونحوها)، وهو من الأحاديث القليلة في (صحيح مسلم) التي أوردها في أكثر من موضع، وقد أحصاها الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي وبلغت عنده مائة وسبعة وثلاثين حديثاً كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.

(11) الصحابي في الحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ولم ينسبه في الإسناد، ولا لبس في عدم نسبته هنا لاشتهار نافع مولاه بالرواية عنه.

(12) الصحابي في الحديث هو أحد العبادلة الأربعة في الصحابة، وهو أحد المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار). المعنى أن عذاب المرأة ودخولها النار سببه سجنها الهرة دون أن تطعمها حتى ماتت وحرف (في) في الموضعين للسببية ومثله قوله تعالى:( لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

(2) قوله (عذبت امرأة). ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) أنه لم يقف على اسمها ووقع في رواية أنها حميرية، وفي أخرى أنها من بني إسرائيل قال: ولا تضاد بينهما، لأن طائفة من حمير كانوا قد دخلوا في اليهودية فنسبت إلى دينها تارة، وإلى قبيلتها أخرى.

(3) وهل هذه المرأة مسلمة أو كافرة؟ قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: ظاهر الحديث أنها كانت مسلمة، وإنما دخلت النار بسبب الهرة. وذكر القاضي: أنه يجوز أنها كافرة عذبت بكفرها، وزيد في عذابها بسبب الهرة، واستحقت ذلك لكونها ليست مؤمنة تغفر صغائرها باجتناب الكبائر. قال النووي: هذا كلام القاضي. وصوب ما قدم من أنها مسلمة وتعقب كلام القاضي بقوله: وهذه المعصية ليست صغيرة بل صارت بإصرارها كبيرة، وليس في الحديث أنها تخلد في النار. انتهى.

قال الحافظ في (الفتح): ويؤيد كونها كافرة ما أخرجه البيهقي في (البعث والنشور) وأبو نعيم في (تاريخ أصبهان) من حديث عائشة، وفيه قصة لها مع أبي هريرة، وهو بتمامه عند أحمد. انتهى.

(4) قوله (في هرة). أي بسببها كما تقدم، والهرة أنثى السنور، والهر الذكر، ويجمع الهر على هررة كقرد وقردة، وتجمع الهرّة على هرر كقربة وقرب. قاله في (الفتح).

(5) قوله (سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لاهي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض). هذا هو سبب دخول المرأة النار، و(خشاش الأرض): المراد به هوام الأرض وحشراتها كالفأرة ونحوها.

(6) قوله (عذبت امرأة في هرة). التنكير في المرأة والهرة لإرادة الوحدة، أي عذبت امرأة واحدة بسبب هرة واحدة، وهذا الحكم لا يخص هذه المرأة بل من عمل عملها استحق مثل عقوبتها، وإنما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحذر أمته مثل هذا العمل.

(7) جاء في حديث أسماء بنت أبي بكر عند البخاري وابن ماجه ذكر كيفية تعذيب المرأة في النار وأن الهرة تخدشها فهي تعذب بها.

(8) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) التحذير من أسباب دخول النار.

(2) جواز اتخاذ الهرة في البيت.

(3) تحريم تعذيب الهرة وغيرها من الحيوان الذي لا يؤذي.

(4) أن تعذيب الإنسان بغير حق يحرم من باب أولى.

(5) أنه لا مانع من حبس الهرة في البيت بشرط سقيها وإطعامها.

(6) أن الجزاء من جنس العمل فكما عذبت المرأة الهرة بحبسها وإهمالها عذبت بدخولها النار.

(7) أنه لا يجب إطعام الهر إلا عند حبسه.

(8) تفخيم شأن الذنب ولو كان صغيراً، وأن الإصرار على الصغائر يلحقها بالكبائر.

(9) الإيمان بالغيب.

(10) إثبات عذاب البرزخ.

(11) إثبات وصول عذاب النار إلى مستحقه قبل يوم القيامة.

(12) التنبيه على العناية بالسجناء والإحسان إليهم.

(13) أن النار موجودة الآن.

(14) وجوب سقي وإطعام السجين على من سجنه.

(15) أن الإنسان إذا لم يحصل منه الإحسان فلا أقل من الابتعاد عن الإساءة.

 



بحث عن بحث