الحلقة (28) شرح حديث ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنه)).

 

 

قال الإمام مسلم رحمه الله في كتابه البر والصلة والآداب من صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس (ح) وحدثنا قتيبة ومحمد بن رمح عن الليث بن سعد (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدة ويزيد بن هارون كلهم عن يحيى بن سعيد (ح) وحدثنا محمد بن المثنى (واللفظ له) حدثنا عبد الوهاب ـ يعني الثقفي ـ سمعت يحيى بن سعيد أخبرني أبو بكر ـ وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم ـ  أن عمرة حدثته أنها سمعت عائشة تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنه)).

المبحث الأول: التخريج:

هذا الحديث رواه مسلم من هذه الطرق عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها، ورواه من طريق أخرى إليها فقال: حدثني عمرو الناقد حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.

ورواه البخاري في (كتاب الأدب) من صحيحه (باب الوصاة بالجار) فقال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني مالك عن يحيى بن سعيد قال أخبرني أبو بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).

ورواه أبو داود في (كتاب الأدب) من سننه (باب في حق الجوار) فقال: حدثنا مسدد حدثنا حماد عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى قلت ليورثنه)).

ورواه الترمذي في (كتاب البر والصلة) من جامعه (باب ما جاء في حق الجوار) فقال: حدثنا قتيبة حدثنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر ـ هو ابن محمد بن عمرو بن حزم ـ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

ورواه ابن ماجه في (كتاب الأدب) من سننه (باب حق الجوار) فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون وعبدة بن سليمان (ح) وحدثنا محمد بن رمح أنبأنا الليث بن سعد جميعاً عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).

وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ولفظه عندهما: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).

وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفيهما: أن عبد الله بن عمرو ذبح شاة فقال: أهديتم لجاري اليهودي؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)). وهذا لفظ أبي داود ونحوه لفظ الترمذي وقال عقبه: وفي الباب عن عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، والمقداد بن الأسود، وعقبة بن عامر، وأبي شريح، وأبي أمامة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث عن مجاهد عن عائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً.

وأخرجه الترمذي في جامعه، وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومتنه عندهما مثل متن حديث عائشة في (صحيح البخاري).

وقال المنذري في (الترغيب والترهيب): وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته الجدعاء في حجة الوداع يقول: ((أوصيكم بالجار)) حتى أكثر، فقلت: إنه يورثه. رواه الطبراني بإسناد جيد. انتهى. وفيه أنه حصل لأبي أمامة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه السلام.

وقال المنذري أيضاً: وعن رجل من الأنصار قال: خرجت مع أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا به قائم وإذا رجل مقبل عليه، فظننت أنه له حاجة فجلست، فوالله لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جعلت أرثى له من طول القيام ثم انصرف، فقمت إليه فقلت: يا رسول الله، لقد قام هذا الرجل حتى جعلت أرثى لك من طول القيام. قال: ((أتدري من هذا ؟ قلت: لا، قال: جبريل صلى الله عليه وسلم مازال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام)). رواه أحمد بإسناد جيد ورواته رواة الصحيح، وقال المنذري بعد سياق جملة من الأحاديث المشتملة على هذا المتن: وقد روي هذا المتن من طرق كثيرة وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنه.

المبحث الثاني: التعريف بالرواة في الإسناد:

الأول: شيخ مسلم قتيبة بن سعيد وقد تقدم في رجال إسناد الحديث الخامس.

الثاني: شيخ مسلم محمد بن رمح، وهو محمد بن رمح بن المهاجر التجيبي مولاهم المصري، ثقة ثبت من العاشرة، مات سنة اثنتين وأربعين ـ أي بعد المائتين ـ، قاله الحافظ في (تقريب التهذيب) ورمز لكونه من رجال مسلم وابن ماجه. وقال في (تهذيب التهذيب): محمد بن رمح بن المهاجر بن المحرر بن سالم التجيبي، مولاهم أبو عبد الله المصري الحافظ حكى عن مالك، وروى عن مسلمة بن عليّ الخشني، وابن لهيعة، والليث، ومفضل بن فضالة، ونعيم بن حماد، وجماعة. وعنه مسلم، وابن ماجه، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، وغيرهم سماهم. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه وتوثيقه عن ابن الجنيد، وأبي داود، وابن ماكولا، وابن يونس، ومسلمة، وذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال فيه النسائي: ما أخطأ في حديث واحد. وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه مسلم مائة حديث وواحد وستين حديثاً.

الثالث: شيخ مسلم أبو بكر بن أبي شيبة تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.

الرابع: شيخ مسلم محمد بن المثنى، قال الحافظ في (التقريب): محمد بن المثنى بن عبيد العنـزي - بفتح النون والزاي - أبو موسى البصري المعروف بالزمن، مشهور بكنيته وباسمه، ثقة ثبت من العاشرة، وكان هو وبندار فرسي رهان وماتا في سنة واحدة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): محمد بن المثنى بن عبيد بن قيس بن دينار العنزي، أبو موسى البصري الحافظ، المعروف بالزمن، روى عن عبد الله بن إدريس، وأبي معاوية، وخالد بن الحارث، ويزيد بن زريع، وعبد الوهاب الثقفي، وغيرهم سماهم. وروى عنه الجماعة، وغيرهم سماهم، وذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قال الخطيب: كان ثقة ثبتاً احتج سائر الأئمة بحديثه. وقال الذهبي: حجّة. وقال السلمي عن الدار قطني: كان أحد الثقات. وقدمه على بندار، قال: وقد سئل عمرو بن عليّ عنهما فقال: ثقتان يقبل منهما كل شيء إلا ما تكلم به أحدهما في الآخر، قال: وكان في أبي موسى سلامة، وقال: مسلمة ثقة مشهور من الحفاظ. انتهى. وكانت وفاته سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وولادته سنة سبع وستين بعد المائة.

الخامس: مالك بن أنس، قال في (التقريب): مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر ابن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر. من السابعة، مات سنة تسع وسبعين ـ أي بعد المائة ـ وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث السابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

السادس: الليث بن سعد، قال في (التقريب): الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري، ثقة ثبت فقيه، إمام مشهور، من السابعة، مات في شعبان سنة خمس وسبعين ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الحادي عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

السابع: عبدة ـ وهو ابن سليمان ـ قال في (التقريب): عبدة بن سليمان الكلابي أبو محمد الكوفي، يقال اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت من صغار الثامنة، مات سنة سبع وثمانين ـ أي بعد المائة وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعاصم الأحول، وغيرهم. وجماعة رووا عنه منهم: أحمد، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وغيرهم. وذكر توثيقه عن أحمد، وابن معين، والعجلي، وابن سعد، وعثمان بن أبي شيبة، والدار قطني.

الثامن: يزيد بن هارون، قال في (التقريب): يزيد بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم، أو خالد الواسطي، ثقة متقن عابد، من التاسعة، مات سنة ست ومائتين، وقد قارب التسعين، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الخامس من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

التاسع: عبد الوهاب الثقفي، قال في (التقريب): عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي، أبو محمد البصري، ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين، من الثامنة، مات سنة أربع وتسعين ـ أي بعد المائة، عن نحو من ثمانين سنة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الرابع عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

العاشر: يحيى بن سعيد ـ وهو الأنصاري ـ قال الحافظ في التقريب: يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني، من الخامسة، مات سنة أربع وأربعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجي في (الخلاصة): يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة الأنصاري النجاري، قاضي المدينة. عن أنس، وابن المسيب، والقاسم، وعراك بن مالك، وخلق. وعنه الزهري، والأوزاعي، ومالك، والسفيانان، والحمادان، والجريران، وأمم.

قال المديني: له نحو ثلاثمائة حديث. وقال ابن سعد: ثقة حجة كثير الحديث. وقال أبو حاتم: يوازي الزهري في الكثرة. وقال أحمد: يحيى بن سعيد أثبت الناس. وذكر المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين)، والحافظ في (تهذيب التهذيب) أنه يكنى أبا سعيد. وذكر في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن سعد، والعجلي، والنسائي، وأحمد، ويحيى بن معين، وأبي حاتم، وأبي زرعة. وذكر عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان يدلس قال: لما سئل عنه وعن محمد بن عمرو بن علقمة: أما محمد بن عمرو فرجل صالح ليس بأحفظ للحديث، وأما يحيى بن سعيد فكان يحفظ ويدلس.

الحادي عشر: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال في (التقريب): أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري النجاري ـ بالنون والجيم ـ المدني القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: إنه يكنى أبا محمد، ثقة عابد من الخامسة، مات سنة عشرين ومائة، وقيل غير ذلك، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): قاضي أهل المدينة زمن سليمان وعمر بن عبد العزيز، يقال: اسمه أبو بكر وكنيته أبو محمد، سمع عمرو بن سليم، وعمرة بنت عبد الرحمن، وعباد بن تميم، وعمر بن عبد العزيز عندهما ـ أي في الصحيحين ـ وقال: روى عنه يحيى الأنصاري، وابنه عبد الله بن أبي بكر عندهما. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) أسماء جماعة روى عنهم، وجماعة رووا عنه وقال: وروى عن خالته عمرة بنت عبد الرحمن، وقال: قال ابن سعد: فولد محمد بن عمرو بن حزم عثمان وأبا بكر الفقيه، وأم كلثوم، وأمهم كبشة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، وذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن معين، وابن خراش، والواقدي.

الثاني عشر: عمرة وهي بنت عبد الرحمن، قال الحافظ في (التقريب): عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، أكثرت عن عائشة، ثقة، ماتت قبل المائة ويقال بعدها، ورمز لكون حديثها في الكتب الستة. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة رووا عنها منهم: ابنها أبو الرجال، وابن أختها أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وابنه عبد الله بن أبي بكر، ويحيى وسعد وعبد ربه أولاد سعيد بن قيس الأنصاري، وغيرهم سماهم، وذكر أنها روت عن عائشة، وأختها لأمها أم هشام بن حارثة بن النعمان، وحبيبة بنت سهل، وأم حبيبة حمنة بنت جحش. وذكر ثناء الأئمة عليها، ونقل توثيقها عن ابن معين، والعجلي، وابن المديني.

الثالث عشر: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قال الحافظ في (التقريب): عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقاً، وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ خديجة ففيها خلاف شهير، ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح، ورمز لكون حديثها في الكتب الستة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، التيمية أم عبد الله الفقيهة، أم المؤمنين الربانية، حبيبة النبي صلى الله عليه وسلم ، لها ألفان ومئتان وعشرة أحاديث، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على مائة وأربعة وسبعين، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بثمانية وستين.

وعنها: مسروق، والأسود، وابن المسيب، وعروة، والقاسم، وخلق. قال عليه الصلاة والسلام: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)). وقال عروة: ما رأيت أعلم بالشعر من عائشة، وقال القاسم: كانت تصوم الدهر. وقال هشام بن عروة: توفيت سنة سبع وخمسين، ودفنت بالبقيع. وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن لها في صحيح البخاري مائتين واثنين وأربعين حديثاً.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، المبرأة من قول أهل الإفك من فوق سبع سموات، تكنى بابن أختها عبد الله بن الزبير، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، روت عن أبيها أبي بكر الصديق، وجدامة بنت وهب عند مسلم. روى عنها مسروق، وعروة، وغير واحد عندهما، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وغير واحد عند مسلم. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً، ولم يتزوج بكراً غيرها، وهي بنت ست، قبل الهجرة بسنتين، وبنى بها وهي بنت تسع، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة سنة، بين سحرها ونحرها، وكانت أحب أزواجه إليه وأكثرهن علماً وأفصحهن لساناً، توفيت سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة تسع وخمسين رضي الله عنها. وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) جماعة روت عنهم، وكثيرين رووا عنها. وقال: قال الشعبي: كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله تعالى، المبرأة من فوق سبع سموات، ثم ذكر الكثير من الثناء عليها رضي الله عنها وأرضاها.

وقال الحافظ ابن حجر في ترجمتها في (الإصابة): وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، وذكر كثيراً من مناقبها رضي الله عنها.


 

المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) أحد عشر راوياً من الرواة في الإسناد اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم، أما الاثنان الباقيان فهما: شيخ مسلم (أبو بكر بن أبي شيبة) ولم يخرج حديثه الترمذي، وشيخ مسلم (محمد بن رمح) ولم يخرج له منهم سوى مسلم وابن ماجه.

(2) قتيبة بغلاني من بغلان بلخ، ومحمد بن رمح والليث بن سعد مصريان، ويزيد بن هارون واسطي، وأبو بكر بن أبي شيبة وعبدة بن سليمان كوفيان، وعبد الوهاب الثقفي ومحمد بن المثنى بصريان، وباقي الإسناد وهم: مالك بن أنس، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعمرة بنت عبد الرحمن، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها مدنيون.

(3) قتيبة بن سعيد ذكره مسلم منسوباً في الطريق الأولى، وغير منسوب في الطريق الثانية، ولا لبس في عدم نسبته لأنه الرجل الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الكتب الستة.

(4) محمد بن المثنى مشهور باسمه، وكنيته أبو موسى، وقد اشتهر بها أيضاً، ومعرفة ذلك من الأمور المهمة في علم مصطلح الحديث، لئلا يظن الواحد اثنين إذا ذكر في موضع بالاسم وفي آخر بالكنية.

(5) محمد بن المثنى شيخ لأصحاب الكتب الستة، كل منهم روى عنه مباشرة، ولقبه الزمن، ومثله في ذلك أيضاً: محمد بن بشار الملقب بنداراً، وقد اتفق معه في سنة الولادة وسنة الوفاة، حيث ولدا معاً في السنة التي مات فيها حماد بن سلمة، وهي سنة سبع وستين ومائة، وماتا في سنة اثنتين وخمسين ومائتين، ولهذا قال الحافظ في ترجمته في (التقريب): كان هو وبندار فرسي رهان وماتا في سنة واحدة.

(6) في الإسناد راويان اشتهرا بالكنية بأبي بكر وهما: ابن أبي شيبة، وابن محمد بن عمرو بن حزم، وقيل: إنها اسم لابن محمد بن عمرو بن حزم وكنيته أبو محمد.

وقال النووي في ترجمته في (تهذيب الأسماء): فكان للكنية كنية. ونقل عن الخطيب البغدادي أنه قال: لا نظير له في هذا إلاّ أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ـ أي أنه اسمه أبو بكر ـ وكنيته أبو عبد الرحمن.

(7) عبدة ذكر في الإسناد غير منسوب وهو ابن سليمان، وقد نسب في الإسناد عند ابن ماجه، وتقدم في التخريج، ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال مسلم من يسمى عبدة سواه.

(8) الطرق التي روى مسلم الحديث منها: عن يحيى بن سعيد الأنصاري أربع، وقد استعمل فيها التحويل مراراً، وتقدم أن مسلماً يستعمل التحويل بكثرة بخلاف البخاري، لأن مسلماً يجمع طرق الحديث في موضع واحد غالباً، أما البخاري فيفرق الحديث على الأبواب لغرض الاستدلال.

(9) الضمير في كلهم في الإسناد يرجع إلى شيوخ شيوخ مسلم الأربعة وهم: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وعبدة بن سليمان، ويزيد بن هارون، ولم يذكر طريق عبد الوهاب الثقفي معهم بل أخرها، ولعل السر في ذلك أن الأربعة المذكورين روايتهم عن يحيى بن سعيد بصيغة عن. أما رواية عبد الوهاب عن يحيى فهي بصيغة: سمعت.

(10) طريقة مسلم التي سلكها في كتابه: أنه إذا روى الحديث عن عدد من شيوخه نص على من له اللفظ منهم، فإنه رواه من طرق أربع وعند ذكر الطريق الرابعة وهي طريق محمد بن المثنى قال: واللفظ له. أي أن لفظ المتن الذي ساقه من رواية محمد بن المثنى. أما الباقون فبالمعنى، أما البخاري فقد ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) أنه عُرف بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا ذكر أكثر من طريق فاللفظ للأخير منها.

(11) لما ذكر في الإسناد عبد الوهاب قال: يعنى الثقفي، ولما ذكر أبا بكر قال: وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم، ومثل هذا يرد كثيراً في الصحيحين، والغرض من ذلك الإيضاح والبيان، لأن الذين رووا عنهم ذكروهم بدون هذه النسبة، فحصلت الزيادة الموضحة المبينة وجاءت على هذه الصيغة دون أن يقال: عبد الوهاب الثقفي أو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، لأن الذين رووا عنهم لم ينسبوهم، فلو ذكرت نسبتهم بهذه الصيغة لكان مضافاً إليهم ما لم يقولوه، ولو اقتصر على ما ذكروه دون إيضاح احتمل أن يلتبس الأمر على بعض الناس، وبسلوك هذه الطريق الموضحة يزول كل من المحذورين المذكورين.

(12) محمد بن رمح شيخ مسلم، ذكر الحافظ في (التقريب) والخزرجي في (الخلاصة) أن نسبته التجيبي مولاهم، ومن شيوخ مسلم حرملة بن يحيى التجيبي، وقد تقدم في رجال إسناد الحديث الثاني. وهذه النسبة  بضم التاء المعجمة باثنتين من فوقها وكسر الجيم وتسكين الياء تحتها نقطتان، وفي آخرها باء موحدة كما في (اللباب) لابن الأثير، وذكر أن هذه النسبة إلى تجيب وهو اسم أم عدي وسعد بني أشرس بن شبيب بن السكون نسب ولدهما إليها، وإلى محلة بمصر، ثم مثل لمن ينسب إلى القبيلة بحرملة بن يحيى، ولمن ينسب إلى المحلة بمحمد بن رمح بن المهاجر، ويشكل على الأخير أن الحافظ في (التقريب) والخزرجي في (الخلاصة) قالا عنه: التجيبي مولاهم، وهو يفيد أن نسبته إلى القبيلة، لكن ذكر النووي في ترجمة حرملة في (تهذيب الأسماء) نقلاً عن أحمد بن الحباب النسابة أنه قال: وهذه القبيلة نزلت مصر وبها محلة تنسب إليها. انتهى، وعلى هذا فإن النسبة إلى المحلة لا تنافي النسبة إلى القبيلة.

(13) يحيى بن سعيد الأنصاري وصفه يحيى بن سعيد القطان بأنه يدلس. وقد صرّح بالإخبار في روايته هذا الحديث عند مسلم، وعند البخاري أيضاً كما في التخريج.

(14) هذا الإسناد فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم: يحيى بن سعيد، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعمرة بنت عبد الرحمن.

(15) في الإسناد يحيى بن سعيد وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهما تابعيان، مدنيان، أنصاريان، نجاريان، كل منهما تولى قضاء المدينة.

(16) يحيى بن سعيد الأنصاري سمع من عمرة بنت عبد الرحمن مباشرة، وروى عنها بواسطة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كما هنا، فروايته عن أبي بكر هذه من رواية الأقران المعروف في علم المصطلح، وهو أن يشترك تلميذان في الرواية عن شيخ ويكون أحد التلميذين روى عن زميله، فلو كان كل منهما قد روى عن الآخر سمي مدبجا.

(17) عمرة هي بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة خالة الراوي عنها في هذا الإسناد وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ولم ينسبها في الإسناد، ولا لبس في عدم نسبتها لأنه ليس في النساء اللاتي خرج حديثهن في صحيح مسلم من يسمى بهذا الاسم غيرها، وقد ذكر الحافظ في (تقريب التهذيب) ممن يسمى عمرة ستاً كلهن يروين عن عائشة رضي الله عنها، أربع منهن ليس لهن رواية في الكتب الستة، وواحدة منهن خرّج لها أبو داود في سننه، وهي في الطبقة الرابعة، أما عمرة بنت عبد الرحمن فحديثها في الكتب الستة.

(18) يحيى بن سعيد الأنصاري وصفه أحمد بن حنبل بصفة تعتبر أعلى مراتب التعديل حيث قال فيه: يحيى بن سعيد أثبت الناس. قال الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): وأرفعها ـ يعني مراتب التعديل ـ الوصف بأفعل كأوثق الناس أو أثبت الناس.

(19) عبد الوهاب الثقفي تغير قبل موته بثلاث سنين، وتقدم أن ما كان في الصحيحين من الرواية عن المختلطين محمول على أن الرواية عنهم كانت قبل الاختلاط، على أن عبد الوهاب الثقفي لم يحدث بعد اختلاطه لأن الناس حجبوا عنه، كما ذكر ذلك الذهبي في ترجمته في (ميزان الاعتدال).

(20) الصحابية في هذا الحديث عائشة رضي الله عنها، الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وجدها وأمها وإخوتها وسائر الصحابة أجمعين، وهي الصحابية الوحيدة التي زاد حديثها في الكتب الستة على ألف حديث، إذ بلغ جملة مالها في هذه الكتب ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، كما في (الخلاصة) للخزرجي، و(تدريب الراوي) للسيوطي.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنه). قال في (الفتح): أي يأمر عن الله بتوريث الجار من جاره، واختلف في المراد بهذا التوريث فقيل: يجعل له مشاركة في المال بفرض سهم يعطاه مع الأقارب، وقيل: المراد أن ينـزل منـزلة من يرث بالبر والصلة، والأوّل أظهر، فإن الثاني استمر والخبر مشعر بأن التوريث لم يقع، ويؤيده ما أخرجه البخاري من حديث جابر نحو حديث الباب بلفظ: ((حتى ظننت أنه يجعل له ميراثاً)). وقال أيضاً: واسم الجار يشمل المسلم، والكافر، والعابد، والفاسق، والصديق، والعدو، والغريب، والبلدي، والنافع، والضار، والقريب، والأجنبي، والأقرب داراً والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها، وهلم جراً إلى الواحد، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى، كذلك فيعطى كل حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوى، وقد حمله عبد الله بن عمرو أحد من روى الحديث على العموم، فأمر لما ذبحت له شاة أن يهدى منها لجاره اليهودي، أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) والترمذي وحسنه.

(2) قال الحافظ في الفتح: وليس في شيء من طرقه ـ يعنى الحديث ـ بيان لفظ وصية جبريل إلاّ أن الحديث يشعر بأنه بالغ في تأكيد حق الجار وقال: قال الشيخ محمد بن أبي جمرة: حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة، كالهدية والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية، وقد نفى صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يأمن جاره بوائقه، وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار، وأن إضراره من الكبائر، قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح وهو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه، وتبيين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضاً، ويستر عليه زلـله عن غيره، وينهاه برفق فإن أفاد فيه وإلا فيهجره قاصداً تأديبه على ذلك مع إعلامه بالسبب ليكف. انتهى.

(3) قال الحافظ في (الفتح): وقال ابن أبي جمرة: إذا أكد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه، وأمر بحفظه وإيصال الخير إليه، وكف أسباب الضرر عنه، فينبغي له أن يراعي حق الحافظين الذين ليس بينه وبينهم جدار ولا حائل، فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات، فقد جاء أنهما يسران بوقوع الحسنات ويحزنان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات والمواظبة على اجتناب المعصية، فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران. انتهى.

(4) قال البخاري في صحيحه: (باب حق الجوار في قرب الأبواب) وساق بسنده إلى عائشة رضي الله عنها، قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: ((إلى أقربهما منك باباً)).

فالأقرب باباً أولى بالهدية فيما إذا لم يكن الإهداء إلى الجميع، قال الحافظ في شرحه: قيل: الحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها، فيتشوف لها بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات ولاسيما في أوقات الغفلة.

(5) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) الوصية في البر والصلة.

(2) التأكيد في وصية الجار بجاره والمبالغة في شأنها.

(3) تكرار الوصية في الجار لإظهار العناية به.

(4) الإيمان بالملائكة.

(5) التنبيه إلى أولوية أقارب الإنسان ولاسيما الوارثين ببره وإحسانه.

(6) أن من أكثر من شيء من أعمال البر يرجى له الانتقال إلى ما هو أعلى منه.

(7) أن الظن إذا كان في طريق الخير جاز ولو لم يقع المظنون، بخلاف ما إذا كان في طريق الشر.

(8) جواز الطمع في الفضل إذا توالت النعم.

(9) التحدث بما يقع في النفس من أمور الخير.

(10) تنبيه الإنسان إلى رعاية حق الملائكة الموَكلين بحفظه، بأن يدخل عليهم السرور بفعله الطاعات ولا يسيء إليهم وإلى نفسه بفعل المعاصي.

 



بحث عن بحث