حديث (سددوا وقاربوا وأبشروا...)

 

 

 

قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب صفة القيامة من الجنة والنار من صحيحه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبد العزيز بن محمد أخبرنا موسى بن عقبة (ح) وحدثني محمد بن حاتم ـ واللفظ له ـ حدثنا بهز حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم  أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحداً عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ)).

وحدثناه حسن الحلواني حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا عبد العزيز بن المطلب عن موسى بن عقبة بهذا الإسناد ولم يذكر (وأبشروا).

المبحث الأول: التخريج:

أخرج مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من هذه الطرق الثلاث عن موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه من حديث جابر من طريقين عن الأعمش عن أبي سفيان عنه مرفوعاً بلفظ: ((قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل))، وهذا اللفظ ساقه مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  فذكره، ثم عقبه بطريق جابر المذكورة ولم يسق لفظه بل قال مثله.

وأخرجه عن جابر من حديث معقل عن أبي الزبير عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم  يقول: ((لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمة من الله))، وأخرج مسلم وسط الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه  من تسع طرق بألفاظ متقاربة، وليس في جميعها ذكر آخره وفي بعضها ذكر أوله.

وأخرج البخاري حديث عائشة من طريقين في (كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل) قال في أولهما: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان عن موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: ((سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قلّ)). وقال في ثانيهما: حدثنا عليّ بن عبد الله حدثنا محمد بن الزبرقان حدثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: ((سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحداً الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة))، قال أظنه عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة، وقال عفان: حدثنا وهيب عن موسى بن عبقة قال سمعت أبا سلمة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((سددوا وأبشروا)).

وأخرج البخاري آخره عن عائشة من ثلاث طرق: إحداها عن مسروق سألت عائشة رضي الله عنها: أي العمل كان أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: ((الدائم)). والثانية عن هشام بن عروة عن أبيه عنها أنها قالت: ((كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  الذي يدوم عليه صاحبه)). والثالثة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عنها رضي الله عنها أنها قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم  أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((أدومها وإن قلّ)). وقال: ((أكلفوا من العمل ما تطيقون)).

وأخرجه البخاري في (كتاب الرقاق) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه  مرفوعاً بلفظ: ((لن ينجي أحداً منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا)).

وأخرجه عن أبي هريرة في (كتاب المرضى) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: ((لن يدخل أحداً عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب)).

وأخرجه ابن ماجه في (كتاب الزهد) من سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قاربوا وسددوا، فإنه ليس أحد منكم بمنجيه عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل.

وأخرجه الدارمي في (كتاب الرقاق) من سننه عن جابر رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قاربوا وسددوا، واعلموا أن أحداً منكم لن ينجيه عمله. قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)).

وأخرج أحمد في المسند حديث عائشة رضي الله عنها فقال: حدثنا عفان قال حدثنا وهيب قال حدثنا موسى بن عقبة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم  أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذكره ومتنه مثل متنه في صحيح مسلم، إلاّ أن فيه (ويسروا) بدل (وبشروا)، وقال أيضاً: حدثنا يعقوب قال حدثنا عبد العزيز بن المطلب عن موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: ((سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ)).

وأخرجه في المسند أيضاً في موضعين من حديث جابر رضي الله عنه  دون ذكر آخره وليس في أوله (وبشروا)، وأخرج وسطه أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . وأخرج وسطه في (المسند) أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه  في واحد وعشرين موضعاً وفي بعضها ذكر أوله.

المبحث الثاني: التعريف بالرواة في الأسانيد الثلاثة.

الأول: شيخ مسلم في الإسناد الأول إسحاق بن إبراهيم تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.

الثاني: شيخ مسلم في الإسناد الثاني محمد بن حاتم تقدم في رجال إسناد الحديث الحادي عشر.

الثالث: شيخ مسلم في الإسناد الثالث حسن الحلواني، قال الحافظ في (التقريب): الحسن بن عليّ بن محمد الهذلي، أبو عليّ الخلال الحلواني ـ بضم المهملة ـ نزيل مكة، ثقة حافظ، له تصانيف، من الحادية عشرة، مات سنة اثنتين وأربعين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى النسائي.

وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن عبد الله بن نمير، وأبي أسامة، ويحيى بن آدم، ويعقوب بن إبراهيم، وغيرهم سماهم. ثم قال: روى عنه الجماعة سوى النسائي، وإبراهيم الحربي، وجعفر الطيالسي، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن يعقوب بن شيبة، والنسائي، والخطيب البغدادي.

الرابع: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الأول: عبد العزيز بن محمد، قال الحافظ في (التقريب): عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي أبو محمد الجهني مولاهم، المدني، صدوق، كان يحدث من كتب غيره فيخطئ. قال النسائي: حديثه عن عبيد الله العمري منكر. من الثامنة، مات سنة ست أو سبع وثمانين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال في (تهذيب التهذيب): أبو محمد المدني مولى جهينة. وقال ابن سعد: دراورد قرية بخراسان، وذكر جماعة روى عنهم منهم: زيد بن أسلم، وشريك بن عبد الله بن أبي نمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة، ويزيد بن الهاد. وذكر جماعة رووا عنه منهم: الشافعي، وابن مهدي، وابن وهب، ووكيع، وإسحاق بن إبراهيم.

وذكر بعض كلام الأئمة فيه ومن ذلك قول أحمد: كان معروفاً بالطلب، وإذا حدث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدث من كتب الناس وهِمَ، وكان يقرأ من كتبهم ويخطئ، وربما قلب حديث عبد الله بن عمر يرويها عن عبيد الله بن عمر. ونقل توثيقه عن مالك، وابن معين، والعجلي.

وقال في مقدمة فتح الباري: أبو محمد المدني، أحد مشاهير المحدثين، وثقه يحيى بن معين، وابن المديني. وقال: قلت: روى له في (البخاري) حديثين، قرنه فيهما بعبد العزيز بن أبي حازم وغيره، وأحاديث يسيرة أفرده، لكنه أوردها بصيغة التعليق في المتابعات، واحتج به الباقون. وقال الذهبي في (الميزان): وقال معن بن عيسى: يصلح الدراوردي أن يكون أمير المؤمنين.

الخامس: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثاني: بهز وهو ابن أسد، قال الحافظ في (التقريب): بهز بن أسد العمي، أبو الأسود البصري، ثقة ثبت من التاسعة، مات بعد المائتين وقيل قبلها، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن شعبة، وحماد بن سلمة، ووهيب بن خالد، وسليم بن حيان، وسليمان بن المغيرة، وهارون بن موسى النحوي، ويزيد بن إبراهيم التستري، وجرير بن حازم، وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل، وعبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وبندار، ويعقوب الدورقي، ومحمد بن حاتم السمين، وعبد الله بن هاشم الطوسي، وأبو بكر بن خلاد، وعدة.

قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت. وذكر غير ذلك من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي حاتم، وابن سعد، ويحيى بن سعيد، والعجلي. وقال في ختام ترجمته: وقال أحمد: هؤلاء الثلاثة أصحاب الشكل والنقط، يعني بهزا وحبان وعفان.

السادس: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثالث: يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال الحافظ في (التقريب): يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو يوسف المدني، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار التاسعة، مات سنة ثمان ومائتين. ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: أبوه، وشعبة، وابن أخي الزهري، والليث، وعبد العزيز بن المطلب. وجماعة رووا عنه منهم: أحمد، وعليّ، وإسحاق، وابن معين، والمسندي، والحلواني. ونقل توثيقه عن ابن معين، والعجلي، وابن سعد.

السابع: شيخ شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثاني: وهيب وهو ابن خالد، قال الحافظ في (التقريب): وهيب بالتصغير، ابن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري، ثقة ثبت، لكنه تغير قليلاً بأخرة، من السابعة، مات سنة خمس وستين ـ أي بعد المائة وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: حميد الطويل، وأيوب، وخالد الحذاء، وموسى بن عقبة. وجماعة رووا عنه منهم: إسماعيل بن علية، وابن المبارك، وابن مهدي، والقطان، ويحيى بن آدم، وبهز بن أسد، وحبان بن هلال، وعفان، وعارم، وهدبة بن خالد. وذكر بعض كلام الأئمة في الثناء عليه، ونقل توثيقه عن أبي داود، والعجلي، وأبي حاتم، وابن سعد.

الثامن: شيخ شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثالث: عبد العزيز بن المطلب، قال الحافظ في (التقريب): عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي، أبو طالب، المدني، صدوق، من السابعة، مات في خلافة المنصور. ورمز لكون البخاري روى له تعليقاً، ولكونه من رجال مسلم، والترمذي، وابن ماجه.

وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه، وأخيه الحكم، وموسى بن عقبة، وغيرهم سماهم. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وأبو عامر العقدي، وإسماعيل بن أبي أويس. ثم قال: قال ابن معين: صالح. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال محمد بن المثنى: ما سمعت ابن مهدي يحدث عنه. وقال الذهبي في (الميزان): قال أبو عبد الله الحاكم: هو صدوق، استشهد به مسلم في مواضع. ثم قال الذهبي. قلت: منها عن سهيل، وعن صفوان بن سليم، وموسى بن عقبة، وعنه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ومعن، وإسماعيل بن أبي أويس، وابن أبي فديك. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

التاسع: ملتقى الأسانيد الثلاثة موسى بن عقبة، قال الحافظ في (التقريب): موسى بن عقبة بن أبي عياش ـ بتحتانية معجمة ـ الأسدي مولى آل الزبير، ثقة فقيه، إمام في المغازي، من الخامسة، لم يصح أن ابن معين لينه، مات سنة إحدى وأربعين ـ أي بعد المائة وقيل بعد ذلك ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة

 وقال في مقدمة فتح الباري: موسى بن عقبة المدني، مشهور، من صغار التابعين، صنف المغازي وهو من أصح المصنفات في ذلك، ووثقه الجمهور. وقال ابن معين: كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح الكتب. وقال مرة: في روايته عن نافع شيء، ليس هو فيه كمالك وعبيد الله بن عمر. ثم قال الحافظ: قلت: فظهر أن تليين ابن معين له، إنما هو بالنسبة إلى رواية مالك وغيره لا فيما انفرد به، وقد اعتمده الأئمة كلهم. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: أم خالد بنت سعيد بن العاص زوج الزبير رضي الله عنهما، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ونافع مولى ابن عمر. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، ومحمد وإسماعيل بنا جعفر، ووهيب بن خالد، والسفيانان، وسليمان بن بلال، وابن جريج، والدراوردي. وذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن سعد، ومالك، وأحمد، وابن معين، والعجلي، والنسائي.

العاشر: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال الحافظ في (التقريب): أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري، المدني، قيل اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، ثقة مكثر، من الثالثة، مات سنة أربع وتسعين، وكان مولده سنة بضع وعشرين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال النووي في (تهذيب الأسماء واللغات): وهو مدني من كبار التابعين، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال، وقال: واتفقوا على جلالة أبي سلمة وإمامته، وعظيم قدره، وارتفاع منـزلته، روينا عن محمد بن سعد قال: كان ثقة فقيهاً كثير الحديث. وقال أبو زرعة: هو ثقة إمام.

الحادي عشر: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقدم ذكرها في إسناد الحديث الثامن.

المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) ستة من الرواة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهم: عائشة رضي الله عنها، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وموسى بن عقبة، ووهيب، وبهز، وعبد العزيز الدراوردي.

(2) ستة من الرواة مدنيون وهم: عائشة رضي الله عنها، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وموسى بن عقبة، والدراوردي، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، وعبد العزيز بن المطلب.

(3) اثنان من الرواة تابعيان وهما: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وموسى بن عقبة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

(4) ملتقى الأسانيد الثلاثة موسى بن عقبة، والإسناد الأول عال بالنسبة إلى الإسنادين الآخرين، لأنه بين مسلم وموسى بن عقبة في الإسناد الأول واسطتان، وبينه وبينه في كل من الإسنادين الآخرين ثلاثة.

(5) الواسطتان بين مسلم وموسى بن عقبة في الإسناد الأول إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وقد وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث ـ كما تقدم في رجال إسناد الحديث الأول ـ، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وقد قال فيه معن بن عيسى: يصلح أن يكون أمير المؤمنين.

(6) شيخ مسلم في الإسناد الأول هو أيضاً شيخ للبخاري، وأبي داود، والترمذي، والنسائي. وشيخه في الإسناد الثالث حسن الحلواني شيخ للباقين سوى النسائي، فكل من إسحاق بن راهويه وحسن الحلواني شيخ للبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي رووا عنهما مباشرة وبدون واسطة، وإسحاق شيخ للنسائي أيضاً، والحلواني شيخ لابن ماجه أيضاً، أما شيخ مسلم في الإسناد الثاني محمد بن حاتم بن ميمون فهو شيخ لأبي داود أيضاً، ولم يرو له الأربعة الباقون.

(7) بهز بن أسد وصفه أحمد بن حنبل بصفة هي من أرفع صيغ التعديل حيث قال فيه: إليه المنتهى في التثبت.

(8) اثنان من الرواة وافقت كنية كل منهما اسم أبيه وهما: شيخ شيخه في الإسناد الأول الدراوردي اسم أبيه محمد وكنيته أبو محمد، وشيخه في الإسناد الثالث حسن الحلواني اسم أبيه عليّ وكنيته أبو عليّ.

(9) قال مسلم ـ رحمه الله ـ في روايته عن شيخيه إسحاق بن راهويه وحسن الحلواني: (حدثنا) وقال في روايته عن شيخه محمد بن حاتم (حدثني)، فالصيغة الأولى لكونه سمع منه هو وغيره، والصيغة الثانية لكونه سمع منه وحده، وصيغة التحديث مع إفراد الضمير يستعملها مسلم كثيراً في الرواية عن شيخه محمد بن حاتم بن ميمون.

(10) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف اشتهر بكنيته، واختلف في اسمه فقيل: عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: إن اسمه كنيته.

(11) أبو سلمة بن عبد الرحمن هو سابع الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة، على ما قاله الحاكم أبو عبد الله. وقال ابن المبارك: سابعهم سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وقال أبو الزناد: السابع أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

(12) أبو سلمة بن عبد الرحمن سابع الفقهاء السبعة على ما قاله الحاكم، وقد توفي سنة أربع وتسعين، وفي هذه السنة توفي أيضاً أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، سابع الفقهاء السبعة على ما قاله أبو الزناد، وفيها توفي من الفقهاء السبعة، سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.

(13) في الإسناد راويان تغير حفظهما في آخر حياتهما وهما: إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، ووهيب بن خالد، وقد تقدم كلام النووي أن ما كان في الصحيحين عن المختلطين محمول على أنه أخذ عنهم قبل الاختلاط.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (سددوا وقاربوا وأبشروا)، قال النووي في شرح صحيح مسلم: ومعنى (سددوا وقاربوا): اطلبوا السداد واعملوا به، وإن عجزتم عنه فقاربوه أي: اقربوا منه، والسداد الصواب، وهو بين الإفراط والتفريط، فلا تغلوا ولا تقصروا. انتهى.

وقال الحافظ في (فتح الباري) في بيان معنى السداد: ومعناه: اقصدوا السداد أي الصواب، وقال: اعملوا واقصدوا بعملكم الصواب، أي اتباع السنة من الإخلاص وغيره، ليقبل عملكم فتنـزل عليكم الرحمة. وقال في معنى (وقاربوا): أي لا تُفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة، لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرِّطوا. انتهى. والسداد الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم  في هذا الحديث هو الحق والصواب، ولابد فيه من أمرين: (أحدهما) أن يكون العمل لله خالصاً، لا شركة لغيره فيه. و(الثاني) أن يكون على النهج الذي جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم . وهذان هما الركنان الأساسيان للعمل الصالح، إخلاص واتباع، إخلاص العبادة لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا إشراك بغير الله، ولا إبتداع في الدين ما لم يأذن به الله.

وقوله صلى الله عليه وسلم : (وأبشروا) أي إذا قمتم بما أمرتم به من سلوك سبيل السداد فأبشروا بالثواب الجزيل، الذي يتفضل الله به على من أخلص له العبادة، وسار على الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.

(2) قوله (فإنه لن يدخل الجنة أحدًا عمله): وردت هذه الجملة بألفاظ متعددة متقاربة، ومعناها: أن دخول الجنة والتمتع بنعيمها لا يحصل للعبد بمجرد العمل، بل بتفضل الله وإحسانه، فهو الذي وفق العبد للعمل الصالح وأعانه على فعله، وامتن عليه بقبوله، وتفضل بالمثوبة عليه، فله الفضل والمنة قبل العمل وعنده وبعده،(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)، ( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا).

قال النووي في شرح هذا الحديث ونحوه من الأحاديث في (صحيح مسلم): ((وفي ظاهر هذه الأحاديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحداً الثواب والجنة بطاعته، وأما قوله تعالى: ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( [الأحقاف:14]،) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( [الزخرف:72]. ونحوهما من الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة فلا يعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها، وقبولها، برحمة الله تعالى وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل وهو مراد الأحاديث، ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة، والله أعلم)). انتهى.

(3) قوله (قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله منه برحمة): قال الحافظ في (الفتح): قال الكرماني: إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلاّ برحمة الله، فوجه تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم  بالذكر، أنه إذا كان مقطوعاً له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله، فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى.

ثم قال الحافظ: قلت: وسبق إلى تقرير هذا المعنى الرافعي في أماليه فقال: لما كان أجر النبي صلى الله عليه وسلم  في الطاعة أعظم، وعمله في العبادة أقوم، قيل له: ولا أنت؟ أي لا ينجيك عملك مع عظم قدره، فقال: لا، إلا برحمة الله. وقد ورد جواب هذا السؤال بعينه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم  عند مسلم من حديث جابر بلفظ: ((لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمة من الله تعالى)). انتهى.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: ومعنى يتغمدني برحمته: يلبسنيها ويغمدني بها، ومنه أغمدت السيف وغمدته إذا جعلته في غمده وسترته به. انتهى.

(4) قوله (واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل): دال على أن العمل الذي يدوم عليه فاعله ولو كان قليلاً، هو أحب العمل إلى الله، وذلك أن العبد إذا داوم على الأعمال الصالحة، فهو حري أن يختم الله له بخير، فإنه إذا وافاه الأجل يوافيه على حالة حسنة، بخلاف الذي لا يداوم على العمل الصالح وينقطع عنه، فقد يوافيه أجله في حالة الترك.

وقال الحافظ في (الفتح): والحكمة في ذلك: أن المديم للعمل يلازم الخدمة فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت، ليجازى بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلاً ثم انقطع، وأيضاً فالعامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل، فيتعرض للذم والجفاء، ومن ثم ورد الوعيد في حق من حفظ القرآن ثم نسيه، والمراد بالعمل هنا الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات. انتهى.

(5) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) الأمر بسلوك طريق السداد.

(2) تنبيه سالكي طريق السداد إلى الحذر من الإفراط والتفريط.

(3) بشارة من سلك طريق السداد بالتفضل عليه والإحسان إليه من الرب سبحانه وتعالى.

(4) أن العامل لا يعول على عمله في دخول الجنة والنجاة من النار.

(5) تفضل الله على عباده وإحسانه إليهم.

(6) أن دخول الجنة ليس عوضاً عن العمل بل برحمة الله وفضله.

(7) الرد على المعتزلة القائلين أن الجنة عوض عن العمل وأن دخولها بمحض الأعمال.

(8) حرص الصحابة رضي الله عنه  على معرفة الحق وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم  عما يخفى عليهم.

(9) مراجعة المتعلم العالم في إيضاح المجمل وتفسير المشكل.

(10) أن قوله صلى الله عليه وسلم : ((لن يدخل الجنة أحداً عمله)). من العام الباقي على عمومه.

(11) دخول النبي صلى الله عليه وسلم  في خطابه للأمة ما لم يدل دليل على عدم الدخول.

(12) حث المسلم على أن يعمل الصالحات وأن يكون راجياً ثواب الله ورحمته خائفاً من عذابه وعقوبته.

(13) الإشارة إلى الحث على المداومة على العمل.

(14) أن العمل الدائم ولو قل هو أحب العمل إلى الله.

(15) التنبيه إلى أنه إذا جمع في العمل بين الدوام والكثرة بدون إفراط كان أفضل.

(16) أن الأعمال الصالحة محبوبة لله.

(17) إثبات صفة المحبة لله على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى.

(18) أن الأعمال الصالحة متفاوتة في محبة الله إياها.

 

 



بحث عن بحث