ضوابط قيم الإسلام الخلقية ( 10- 10).

الندب والتفضل وقيم الإسلام الخلقية:

لقد جاء الإلزام في قيم الإسلام الخلقية بمقدار معين وفيما لا بد للفرد والمجتمع منه, فلا تمثل الواجبات الخلقية إلا امتداداً معيناً في سلم القيم.

وهذا يعني أن جملة من قيم الإسلام الخلقية مرغب فيها ومندوب إليها دون الإلزام بها, وبالتالي لا مشقة فيها لأنها تفضل وندب، " والندب لا مشقة فيه لأنه جائز الترك" (1)

ومن أمثلة القيم الخلقية المندوبة في الإسلام, العفو عن الظالم فإن المظلوم يباح له الاقتصاص من ظالمه بقدر مظلمته, وهو في الوقت نفسه مندوب إلى العفو عمن ظلمه, كما قال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) [ النحل: 126], وقال: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [ الشورى: 40].

ومن ذلك التصدق على المدين بالتنازل عن بعض الدين أوكله, قال تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [ البقرة: 280], فأباح تعالى أخذ الحق من الواجد في الحال وأمر بإنظار المعسر، ثم ندب إلى الفضل وهو العفو عن بعض الحق والمحاباة في المعاملة  .

على أن الامتداد في الفضائل المندوبة محاط في الإسلام بسياج يضمن لها الاستمرار, ويمنع من أن توقع في الزلل أو تؤدي إلى الانحراف, ويتمثل هذا في أمرين:

الأول: الأخذ من المندوبات بما يتيسر معه الاستمرار ولا يتسرب معه الملل المؤدي إلى الترك, يدل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل حتى تملوا)(3) وقوله: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) (4).

فلا يبالغ في صلة قريب أو نفقة على محتاج فيشق عليه الاستمرار فيها فينقطع عنها.

الثاني: أن لا يترتب على الزيادة في فضيلة من الفضائل إهمال فضيلة أخرى أو تضييعها(5).

ذلك أن الإنسان قد ينشط لفضيلة معينة أو عدد من الفضائل سعيا نحو الكمال, لكن قد يكون مع هذا النشاط وهذا الإيغال في الفضيلة غفلة عن فضائل أخرى هي في نفس الدرجة من الأهمية أو أعلى, وقد حدث مثل هذا الشطط في جانب العبادة, وتولى تقويمه الرسول صلى الله عليه وسلم, ففي الحديث عن أنس(6)رضي الله عنه قال: جاءثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي صلىالله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى اللهعليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصليالليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلاأتزوج أبدًا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذاوكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوجالنساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)(7)

ولما قال عبد الله بن عمرو (8): والله لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ما عشت, وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم, قال له: ( فلا تفعل: صم وأفطر، ونم وقم, فإن لجسدك عليك حقا, وإن لعينيك عليك حقا, وإن لزوجك عليك حقا, وإن لزورك عليك حقاً)(9) .

ووجه النهي في هذه الأحوال المتقدمة ونحوها هو كما يقول الشاطبي:" إن المكلف بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها، ولا محيص له عنها، يقوم فيها بحق ربه تعالى، فإذا أوغل في عمل شاق فربما قطعه عن غيره، ولا سيما حقوق الغير التي تتعلق به، فتكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعاً عما كلفه الله به، فيقصر فيه فيكون بذلك ملوماً غير معذور،إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها، ولا بحال من أحواله فيها" (10).

   وإذا كان ما تقدم هو في جانب العبادة فمثله قد يحدث في مجال القيم الخلقية, فالإيثار وهو تقديم المرء غيره على نفسه, الأصل فيه الندب، فقد أثنى الله تعالى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا في قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [ الحشر: 9], وأقر عليه الصلاة والسلام أبا بكر رضي الله عنه حين تصدق بكل ماله, حيث قال له: (ما أبقيت لأهلك؟ )فقال: أبقيت لهم الله ورسوله (11).

ومع ذلك فقد ذكر بعض العلماء أن الإيثار في بعض الأحوال يكون ممنوعاً, وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة, كنفقة الزوجات ونحوها, فتبرع بالإنفاق في غير الواجب وترك الفرض، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وابدأ بمن تعول)(12) , وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم, فلا يجوز له ذلك, والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة وكان واثقاً من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال"(13).


(1) ابن حجر – الفتح (2 / 375).

(2) عبد الرحمن بن سعدي – القواعد الجامعة ص 54.

(3) متفق عليه – ابن حجر الفتح (3 / 36)النووي شرح صحيح مسلم (2 / 439).

(4) رواه مسلم, النووي المرجع السابق ص 440.

(5) انظر: الشاطبي- الموافقات ج2 ص 136, محمد عبد الله دراز – دستور الأخلاق في القرآن – تعريب وتحقيق عبد الصبور شاهين ص 90, مؤسسة الرسالة, بيروت ط4 سنة 1402هـ.

(6) هو انس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي, خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن المكثرين في الرواية عنه, مات سنة 92هـ, وقيل بعدها بسنة, سير أعلام النبلاء (3/395) الإصابة (1/84) تقريب التهذيب ص115.

(7) متفق عليه – ابن حجر الفتح (3 / 319)النووي شرح صحيح مسلم (3 / 549).

(8) هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل القرشي السهمي, من السابقين والمكثرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأحد العبادلة الفقهاء, مات بالطائف سنة 63هـ, سير أعلام النبلاء (3/79) الإصابة (2/343) تقريب التهذيب ص315.

(9) متفق عليه – ابن حجر الفتح (3 / 38) النووي شرح صحيح مسلم (3 / 218)0

(10) الشاطبي – الموافقات (2 / 134).

(11) رواه أبو داود والترمذي, محمد آبادي – عون المعبود ج5 ص 94-95, المباركفوري – تحفة الأحوذي (10 / 161).

(12) رواه البخاري ومسلم, ابن حجر – فتح الباري (9 / 500) النووي شرح صحيح مسلم (3 / 74).

(13) الشنقيطي – أضواء البيان (1 / 109) المطابع الأهلية بالرياض سنة 1403هـ, وانظر في تفصيل ذلك:

القرطبي – الجامع لأحكام القرآن (18 / 27-28).

وابن القيم – زاد المعاد تحقيق: شعيب وعبد القادر الأرناؤوط (3 / 589-590)مؤسسة الرسالة – بيروت ط1 سنة 1399هـ.



بحث عن بحث