ضوابط قيم الإسلام الخلقية ( 7- 10).

 

المكروه والمباح في الشرع:

حيث أن المكروه منهي عنه فالأصل في المسلم التباعد عنه, لكن لما كان النهي عنه غير جازم, وبالتالي لا عقاب على مقارفته. فإنه يعد مجالاً لمن احتاج إليه, أو ضعفت نفسه عن غيره.

وإنما جاء التخفيف فيه لقلة ضرره من جهة ومشقة التحرز منه من الجميع من جهة ثانية.

ومن أمثلة الحاجة إلى التلبس بالمكروه ما ذكره الشاطبي بقوله:" إن كان ترك المكروه الذي له فيه حظ يؤدي إلى ما هو أشد كراهة منه, غلب الجانب الأخف, كما قال الغزالي: إنه ينبغي أن يقدم طاعة الوالدين في تناول المتشابهات على التورع عنها مع عدم طاعتهما, لأن تناول المتشابهات للنفس فيها حظ, فإذا كان فيها اشتباه طلب التورع عنها وكره تناولها لأجله, فإن كان في تناولها رضا الوالدين رجح جانب الحظ هنا, بسبب ما هو أشد في الكراهية وهو مخالفة الوالدين" (1) ,  والمقصود أنه يشرع الإقدام على المكروه إذا كان يؤدي تركه إلى الوقوع فيما هو أشد كراهة منه.

وفي تجنب المسلم الوقوع في المكروهات إذا لم تكن حاجة, احتياط لدينه, وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس, فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) (2) , وقد قيل أن المراد بالمشبهات المكروهات (3) .

قال الحافظ - رحمه الله-:" لا يخف أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه" (4) .

أما المباح فالأمر فيه أوسع من المكروه, فالحاجة إليه أكبر والضرر المترتب عليه أقل, بل قد لا يكون الضرر في ذاته بل لأمر خارج عنه.

فهو مأذون فيه, بل ذهب جميع من أهل العلم إلى أن المباح ينقلب إلى طاعة وقربة إذا اقترنت به النية الصالحة, قال شيخ الإسلام:" من استعان بالمباح الجميل على الحق فهذا من الأعمال الصالحة"(5) .

ومما استدل به رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام: ( في بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر)(6) , وقوله عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص(7) : (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك) (8) .

قال النووي رحمه الله:" وضع اللقمة في فيِّ الزوجة يقع غالباً في حال المداعبة, ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر, ومع ذلك إذا وجه القصد في تلك الحال إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله" (9) , وفي هذا تخفيف على الناس ورحمة بهم ولا سيما وهم محتاجون إلى المباحات, وقليلوا الصبر عنها, يقول شيخ الإسلام في قول الله تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) (10).

قال:" سياق الكلام يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات، فلابد له من شهوة مباحة يستغنى بها عن المحرمة, ولهذا قال طاووس(11)  ومقاتل(12) : ضعيف في قلة صبره عن النساء, وقيل: ضعيف في أصل الخلقة"(13) .

وقال رحمه الله:" النفوس لا تقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها, فتكون تلك الحظوظ عبادة لله وطاعة له مع النية الصالحة"(14) , وكان عمر بن عبد العزيز (15) رحمه الله يقول:" والله لأريدن أن أخرج لهم –يعني الرعية- المُرة من الحق, فأخاف أن ينفروا عنها, فأصبر حتى تجيء الحُلوة من الدنيا, فأخرجها معها, فإذا نفروا لهذه, سكنوا لهذه" (16) .

ومع هذا فلا ينبغي الإيغال في المباحات, لأنها قد تجر إلى المحرم, وقد جاء في الحديث ( اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه, ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه) (17) , قال الحافظ:" المعنى أن الحلال حيث يخشى أن يؤول فعله مطلقاً إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه"(18) .


(1)  الشاطبي, الموافقات (2/ 147)

(2)  متفق عليه واللفظ للبخاري, انظر: ابن حجر, الفتح (1 / 126) النووي شرح صحيح مسلم (4 / 110-111).

(3)  ابن حجر, الفتح (1 / 127).وهذا أحد الأقوال فيها وقيل ما تعارضت فيه الأدلة ومال إلى هذا الحافظ, وقيل غير ذلك.

(4)  المرجع السابق, الصفحة نفسها.

(5)  ابن تيمية, السياسة الشرعية ص 147, دار الكتاب العربي.

(6)  رواه مسلم, النووي شرح صحيح مسلم (3 / 43-44).

(7) سعد بن مالك بن وهيب بن عبد مناف القرشي الزهري, أحد العشرة المشهود لهم بالجنة, مناقبه كثيرة, مات بالعقيق سنة 55هـ على المشهور.

سير أعلام النبلاء (1/92) الإصابة (2/30) تقريب التهذيب ص232.

(8)  متفق عليه واللفظ للبخاري, ابن حجر, الفتح (1 / 136)النووي شرح صحيح مسلم (4 / 160).

(9)  النووي, المرجع السابق, الصفحة نفسها.

(10)  سورة النساء الآية: (28).

(11)  هو طاووس بن كيسان  اليماني: أبو عبد الرحمن الفارسي, فقيه فاضل, مات سنة 106هـ, وقيل بعد ذلك, سير أعلام النبلاء (5/38) تقريب التهذيب ص381.

(12)  مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخرساني, أبو الحسن البلخي من أعلام المفسرين, وهو متروك الحديث, مات سنة 150هـ, سير أعلام النبلاء (7/201) تقريب التهذيب ص545.

(13)  ابن تيمية, الفتاوى (10 / 572).

(14)   ابن تيمية, السياسة الشرعية ص 145.

(15)  عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم القرشي الأموي, أمير المؤمنين, أبو حفص الخليفة الزاهد الراشد, مشهور كثير الفضائل توفي سنة 101هـ

سير أعلام النبلاء( 5/114) البداية والنهاية (9/192).

(16)  ابن تيمية, السياسة الشرعية ص 143.

(17)  رواه ابن حبان, قال الحافظ عن هذه الرواية : ذكر مسلم إسنادها ولم يسق لفظها, فتح الباري (1 / 127).

(18)  المرجع السابق الصفحة نفسها.

 

 



بحث عن بحث