مصادر قيم الإسلام الخلقية (المصادر غير الأصلية)

                                  (3- 5).

 

ثانياً: المصالح المرسلة.

المصلحة المرسلة في اللغة:

المصلحة: كالمنفعة وزناً ومعنى, فكل ما كان فيه نفع – سواء كان بالجلب والتحصيل, أو بالدفع والاتقاء فهو مصلحة(1).

والمرسلة: المطلقة(2), كما جاء في الحديث في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (كان أجود بالخير من الريح المرسلة) (3).

المصلحة المرسلة في الاصطلاح:

هي: ما سكتت عنه الشواهد الخاصة – من التصرفات والأفعال – فلم تشهد باعتباره ولا بالغائه, ويلائم تصرفات الشرع(4).

وقيل فيها: أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه(5).

أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب مصلحة أو يدفع مفسدة إلا وقد دلت عليه الشريعة وأرشدت إليه إما بدليل خاص أو بعموماتها ومقاصدها العامة, ويشترط في هذه المصالح أن لا يكون في الشرع ما ينفيها, وإلا لعلم أنها مصالح مرجوجة, وما يترتب عليها من مفسدة أعظم مما تجلبه من مصلحة فلا يلتفت إليها ولا يعول عليها.

ولذا كان القول في تعريف المصلحة المرسلة أنها المصلحة التي لم يشهد الشرع لها باعتبار ولا الغاء (6) محل نظر.

   اذ ليس في الشرع مصلحة مسكوت عنها بل لا بد أن يدل عليها الشرع بوجه من وجوه الدلالة, وغاية الأمر أنه لم يقم دليل معين على اعتبارها أو الغائها, وإنما يستفاد حكمها من عمومات الشريعة وقواعدها العامة.

   قال شيخ الإسلام: (والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة ، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلموتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك لكن ما اعتقده العقل مصلحة وان كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له : إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر ، أو أنه ليس بمصلحة وان اعتقده مصلحة ؛ لأن المصلحة هي المنفعة [الخالصة] (7) أو الغالبة ، وكثيراً ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة كما قال تعالى في الخمر والميسر : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا] (8). (9)

حجية المصلحة المرسلة:

   اختلف العلماء في الاحتجاج بالمصالح المرسلة وأشهر من قال بها الإمام مالك (10) رحمه الله.

   وقد ذكر بعض العلماء أن الاستدلال بالمصالح المرسلة فيما لا نص فيه عام بين المذاهب, وفي هذا يقول القرافي: هي عند التحقيق (يعني العمل بالمصالح المرسلة) في جميع المذاهب لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار, ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك(11).

   وقال ابن دقيق العيد(12): الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع, ويليه أحمد بن حنبل (13) ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة, ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما(14).

   ومما استدل به العلماء على حجية العمل بالمصالح المرسلة ما يأتي:

1- أن من تأمل الشريعة واستقرأ تفاصيل الأحكام فيها يظهر له بجلاء أنها جاءت لرعاية مصالح العباد في العاجل والآجل, وقد قال الله تعالى عن نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (15), وقال تعالى عن كتابه: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } (16), فهذا في أصل شرعه, وفي تفاصيل الأحكام يقول تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا) (17).

   والقرآن والسنة مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم ومصالح العباد (18), فإذا لم يكن في مسألة من المسائل نص ولا إجماع ولم يكن ثم مجال للقياس, وفي إثباتها تحقيق مصلحة راجحة وجب ذلك لموافقته مقاصد الشريعة.

2- عمل الصحابة، فقد ثبت عنهم رضوان الله تعالى عليهم القيام بكثير من الأمور دون أن يكون لها شاهد معين, وإنما قاموا بها لما تحققه من مصلحة راجحة, فهو دليل على اعتبارهم المصالح المرسلة.

ومن أمثلة ذلك:

- جمع القرآن في عهد أبي بكر(19) رضي الله عنه في مصحف واحد بإشارة عمر (20)رضي الله عنه, وهو أمر هداهما الله إليه وليس ثم نص على جمعه, بل قد قال بعضهم: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال عمر في تعليله لأبي بكر: هو والله خير(21).

- قضاء الخلفاء الراشدين بتضمين الصناع, لأن الغالب عليهم التفريط في حفظ حقوق الناس, والناس محتاجون إليهم, ففي تضمينهم إقامة لمصالح الناس وحفظاً لحقوقهم, وقد قال علي (22) رضي الله عنه: لا يصلح الناس إلا ذاك(23).

- قتل الجماعة بالواحد، كما فعل عمر رضي الله عنه، والمستند فيه المصلحة المرسلة, ووجه المصلحة المرسلة أن لا يتخذ الاشتراك ذريعة إلى القتل إذا علم أنه لا قصاص فيه (24).

3- أن أحوال الناس تتغير وتتبدل باختلاف الأزمنة والأمكنة وبمر العصور فتطرأ للناس حاجات وتحصل لهم أحداث ووقائع لا حصر لها, ففي سد باب الاستصلاح تضييق على العباد وتعطيل لمصالح الناس, وهذا مما يتنافى مع مقاصد الشريعة.

 


(1) ابن منظور- لسان العرب ( 2 / 348,) الفيروز آبادي – القاموس المحيط (1 / 235).

(2) ابن منظور- المرجع السابق ( 11 / 285) مجمع اللغة العربية – المعجم الوسيط (1 / 344).

(3) متفق عليه, ابن حجر – فتح الباري (4 / 116) النووي – شرح صحيح مسلم (5 /165 -166.)

(4) انظر الشاطبي – الاعتصام (2 / 114-115), دار المعرفة – بيروت.

(5) ابن تيمية, الفتاوى (11 / 342 -343).

(6) الآمدي – الأحكام في أصول الأحكام (4 /160.)

(7) في الأصل الحاصلة ولعل لفظ الخالصة الأنسب للمقام فيكون ما في المطبوع تصحيف.

(8) سورة البقرة آية: (219).

(9) ابن تيمية – مجموع الفتاوى (11 / 344-345.)

(10) هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله المدني إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة, مات سنة 179, وكان مولده سنة 93 هـ.

سير أعلام النبلاء( 8/48) تقريب التهذيب ص516, انظر: الشاطبي – الاعتصام( 2/111,) الآمدي – الأحكام 4(/160) الشوكاني – ارشاد الفحول ص 242.

(11) القرافي – شرح تنقيح الفصول ص 171عن د. مصطفى البناء – أثر الأدلة المختلف ليهاص 44, دار الإمام البخاري للطباعة والنشر, دمشق.

(12) هو محمد بن علي بن وهب المنفلوطي الأصل من أكابر علماء الأصول ولي قضاء الديار المصرية ولد سنة 625 وتوفي سنة 702هـ, الدرر الكامنة 4/91.

(13) أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي نزيل بغداد الحافظ الفقيه أحد الأئمة الأربعة مات سنة 241هـ وله سبع وسبعون سنة, سير أعلام النبلاء( 11/17) تقريب التهذيب ص84.

(14) الشوكاني – ارشاد الفحولص 242.

(15) سورة الأنبياء آية: (107).

(16) سورة الإسراء آية: (9).

(17) انظر: ابن القيم – مفتاح دار السعادة (2 /22,) دار الكتب العلمية – بيروت, الشاطبي  الموافقات (2, /6).

(18) الشوكاني – ارشاد الفحول ص 242.

(19) هو عبدالله بن عثمان بن عامر القرشي التيمي, أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صاحب الفضائل والمناقب المعروفة مات سنة 13هـ, وله ثلاث وستون سنة, أسد الغابة (3/205) الإصابة( 2/333).

(20) عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي أبو حفص أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين جم المناقب والفضائل مات سنة 23هـ شهيداً وله ثلاث وستون سنة, أسد الغابة( 3/642), الإصابة (2/512).

(21)الشاطبي – الاعتصام (2 / 115)

(22) علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة رابع الخلفاء الراشدين صاحب على الأرجح, أسد الغابة( 3/588), الإصابة 2(/501).

(23) الشاطبي – الاعتصام (2 / 119)

(24) المرجع السابق (2 / 125).

 

 



بحث عن بحث