آثار قيم الإسلام الخلقية في حياة التابعين رحمهم الله تعالى (2- 7).

 

ثم لما كان آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير(1) وعبد الملك (2) حدثت بدعة المرجئة(3) والقدرية(4) . ثم لما كان في أول عصر التابعين – في أواخر الخلافة الأموية – حدثت بدعة الجهمية(5) والمشبهة الممثلة(6) ، ولم يكن في عهد الصحابة شيء من ذلك . وكذلك فتن السيف ، الناس كانوا في ولاية معاوية رضي الله عنه متفقين يغزون العدو، فلما مات معاوية قتل الحسين(7) ، وحوصر ابن الزبير بمكة ، ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة، ثم لما مات يزيد(8) جرت فتنة الشام بين مروان(9)والضحاك(10) بمرج راهط , ثم وثب المختار (11) على ابن زياد (12) فقتله وجرت فتنة , ثم جاء مصعب بن الزبير(13) فقتل المختار وجرت فتنة , ثم ذهب عبد الملك إلى مصعب فقتله وجرت فتنة , وأرسل الحجاج(14)إلى ابن الزبير فحاصره مدة ثم قتله وجرت فتنة , ثم لما تولى الحجاج العراق خرج عليه محمد بن الأشعث(15) مع خلق عظيم من العراق وكانت فتنة كبيرة ... (16)

وموقف التابعين من هذين الأمرين واضح جلي , أما المذاهب والفرق فقد سعوا في كشف زيفها , وتنقية منابع الأمة من ضلالتها , وكان موقفهم من أهل البدع التحذير منهم, وبيان بطلان مذاهبهم , والرد على شبههم ودعوتهم بالحكمة ومجادلتهم بالتي هي أحسن .

ومن أمثلة ذلك من سير التابعين :

-   كان عطاء بن أبي رباح(17) يرشد إلى مذهب السلف في الطواف ليعلمه القصي والداني , ولا سيما ما خالف فيه أهل البدع أهل السنة والجماعة كمسائل القدر والتكفير(18) ، وكان رحمه الله يتفقد أهل العلم والفضل , فقد قدم أبو حنيفة(19) مكة فسأل عطاء عن شيء , فسأله عطاء عن بلده فلما أخبره أنها الكوفة قال : من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ؟ قال : نعم . قال : فمن أي الأصناف أنت ؟ قال : ممن لا يسب السلف , ويؤمن بالقدر , ولا يكفر أحداً من أهل القبلة بذنب . فقال عطاء : عرفت فالزم(20).

- وناظر عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخوارج , وأرسل إليهم يدعوهم إلى الله والدخول مع المؤمنين(21).

ولم يكن السلف من الصحابة والتابعين يحرصون على المناظرة إلا في الضرورة ورجاء مصلحة راجحة . قال ابن عبد البر : هذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو ممن جاء عنه التغليظ في النهي عن الجدال في الدين وهو القائل : من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل , ولما اضطر وعرف الفلج في قوله ورجى أن يهدي الله به لزم البيان فبين وكان أحد الراسخين في العلم رحمه الله(22).

- كان الحسن ومحمد بن سيرين(23)يقولان : لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم(24) 


(1) عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي , ولي الخلافة تسع سنين إلى أن قتل في ذي الحجة سنة 73 ه , وكان صواما قواما فاضلا . سير أعلام النبلاء(3/363 ) الإصابة (2/30 )0

(2) عبد لملك بن مروان بن الحكم الأموي , ولي الخلافة ثلاث عشرة سنة استقلالا وقبلها منازعا لابن الزبير تسع سنين , مات سنة 86 ه . سير أعلام النبلاء (4/246 ) تقريب التهذيب 365 .

(3) الإرجاء : التأخير , وسمي بذلك لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان , ويقولون لا يضر مع الإيمان معصية كما لاينفع مع الكفر طاعة . وقيل: سموا بذلك لنفيهم الإرجاء , وأنه لا أحد مرجأ لأمر الله , إما أن يعذبهم وإما يتوب عليهم . انظر : الشهرستاني – الملل والنحل (1 /139 ) أبي العز الحنفي شرح العقيدة الطحاوية ص592 , بتخريج الألباني , المكتب الإسلامي – بيروت ط6 سنة 1400 ه .

(4) القدرية : هم نفاة القدر , وإنما نسبوا إلى القدر لنفيهم إياه , وقولهم إن الإنسان يخلق فعله , فاخرجوا أفعال العباد عن قدرة الله وخلقه . انظر : أبي العز الحنفي – شرح العقيدة الطحاوية ص 592 – 593 .

(5) الجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان الترمذي , الذي قتل في آخر خلافة بني أمية . ومذهبهم نفي صفات الله تعالى , فلا يوصف بصفة يوصف بها خلقه لتوهمهم أن قيام هذا الصفات به لايعقل الا على النحو الموجود في قيامها بالمخلوق . انظر: الشهرستاني – الملل والنحل( 1/ 86)محمد خليل هراس – شرح العقيدة الواسطية 126, مراجعة الشيخ عبد الرزاق عفيفي الرئاسة العامة الإدارات البحوث الرياض سنة 1403 هـ .

(6) المشبهة والممثلة : هم الذين شبهوا الله بخلقه ، ومثلوه بعباده، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا ، وقد قال الله تعالى عن نفسه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى :]11، أنظر: الشهرستاني الملل والنحل( 1 / 105)0 محمد خليل هراس _ شرح العقيدة الوسطية ص 108.

(7) الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي سبط رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم كثير المناقب ، استشهد يوم عاشوراء سنة64 هـ. الإصابة( 1/331) تقريب التهذيب 167 .

(8) يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي ، ولي الخلافة بعد أبيه بعهد منه ومدة خلافته أقل من أربع سنين ، وتوفي سنة 64 هـ.سير أعلام النبلاء (4/35).

(9)  مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي ،دعي بخلافة في آخر سنة 64 هـ ومات سنة 65 هـ . سير أعلام النبلاء (3/346) تقريب التهذيب 525 .

(10)هو الضحاك ابن قيس بن خالد القرشي الفهري ، الأمير المشهور،من صغار الصحابة ، قتل في واقعة مرج راهط سنة64هـ.   سير أعلام النبلاء ( 3/241) تقريب التهذيب 279 .

(11) المختار بن أبي عبيد الثقفي من كبراء ثقيف , كان شجاعا فصيحا مع كذب وقلة دين , فقد ادعى أن الوحي يأتيه وأنه يعلم الغيب , هلك سنة 67 ه . سير أعلام النبلاء (3/538 ) البداية والنهاية (8/289 )

(12) هو عبيد الله ابن زياد بن أبيه , أمير العراق , كان فيه جرأة وإقدام , ومبادرة إلى ما لا يجوز , مات سنة 67 ه . سير أعلام النبلاء (3/545  ) البداية والنهاية (8/ 283 )

(13) مصعب بن الزبير بن العوام الأسدي , أمير العراقين , كان فارسا شجاعا , قتل سنة 72 ه , سير أعلام النبلاء 4/140 . البداية والنهاية (8/317 )0

(14) الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل الثقفي , كان ذا فصاحة وشجاعة ومكر , مع ظلم ونصب وتجبر , هلك سنة 95 ه . سير أعلام النبلاء (4/343 ) البداية والنهاية( 9/117 )

(15) بل هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي , ثار على الحجاج لظلمه في جمع عظيم ولكنه هزم ثم هلك بعد ذلك سنة 83 ه وقيل في التي بعدها . سير أعلام النبلاء( 4/183 ) البداية والنهاية( 9/53 )

(16) - الذهبي – المنتقى من منهاج الاعتدال ص 386 – 387 , وهو مختصر منهاج السنة لابن تيمية , تحقيق وتعليق محب الدين الخطيب .

(17)- عطاء بن أبي رباح القرشي , مولاهم المكي , ثقة فقيه فاضل مات سنة 14 ه , سير أعلام النبلاء( 5/ 78 ) تقريب التهذيب 391 .

(18) - ابن كثير – البداية والنهاية( 9 /308 )

(19) - هو النعمان بن ثابت بن زوطي الكوفي , أبو حنيفة الإمام المشهور أصله من فارس , إليه المنتهى في الفقه والتدقيق والرأي توفي سنة 150 ه . سير أعلام النبلاء(6/390 ) تقريب التهذيب 523 .

(20) - ابن كثير البداية والنهاية (9 /307 )0

(21) - ابن عبد الحكم – سيرة عمر بن عبد العزيز ص 75 , 79 , 112 – 115 . عالم الكتب – بيروت ط6 سنة 1404 ه .

(22)- ابن عبد البر – جامع بيان العلم وفضله (2 /130 ) دار الفكر – بيروت .

(23) -محمد بن سيرين الأنصاري, مولى أنس بن مالك , ثقة ثبت عابد كبير القدر من خيار التابعين, مات سنة 110 ه.

 سير أعلام النبلاء( 4/606) تقريب التهذيب 483 .

(24) - ابن سعد – الطبقات (7 /172)0

 



بحث عن بحث