آثار قيم الإسلام الخلقية في صياغة المجتمع المسلم (6- 8).

 

 

خلقه مع المخالفين له :

لقد كان الأصل في معاملته عليه الصلاة والسلام للمخالفين له الرحمة بهم, والحرص على هدايتهم, والصبر على أذاهم, والبذل لهم والإحسان إليهم, ترغيبا لهم, واستجلابا لقلوبهم, ذلك أن" من أعظم ما يتوسل به إلى الناس, ويستجلب به محبتهم البذل لهم مما يملك المرء من حطام هذه الدنيا, واحتمال عنهم ما يكون منهم من الأذى(1)  ".

قال ابن القيم رحمه الله عن سيرته عليه الصلاة والسلام مع أعدائه:" وأمره – يعني ربه تبارك وتعالى – في دفع عدوه من شياطين الجن والإنس, أن يدفع بالتي هي أحسن؛ فيقابل إساءة من أساء إليه بالإحسان, وجهله بالحلم, وظلمه بالعفو, وقطيعته بالصلة, وأخبره أنه إن فعل ذلك عاد عدوه كأنه ولي حميم(2) .

-   فأما الحرص على هدايتهم, فإنه كان يكثر الدعاء لهم, وسؤال الله تعالى لهم الهداية, بل كان دعاؤه سببا في إسلام طوائف كثير ة منهم .

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم الطفيل(3) بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا يا رسول الله: إن دوسا قد كفرت وأبت فادع الله عليها, فقيل هلكت دوس, فقال:" اللهم اهد دوساً وائت بهم(4) "فلم يلبثوا أن أتوا مسلمين(5)  .

-  وأما عن جوده عليه الصلاة والسلام لهم, فعن أنس أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين فأعطاه إياه, فاتى قومه فقال : أي قوم أسلموا فوالله أن محمداً ليعطي عطاءً ما يخاف الفقر. قال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا, فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها(6)  .

وقال صفوان(7)  بن أمية بعد أن أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم مائة من الغنم ثم مائة, والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وأنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي(8) .

ومن هذين الحديثين يتبين أثر الجود والبذل, وفعاليته في تحويل القلوب وتوجيهها, حيث قلبت المبغض إلى محب, والعاصي إلى مطيع ولا عجب,"فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها(9)  ". ومن ثم القبول منه والأخذ عنه.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: من" أمر غيره بحسن أو أحب موافقته على ذلك أو نهى غيره عن شيء فيحتاج أن يحسن إلى ذلك الغير إحساناً يحصل به مقصوده من حصول المحبوب واندفاع المكروه فإن النفوس لا تصبر على المر إلا بنوع من الحلو, لايمكن غير ذلك. ولهذا أمر الله تعالى بتأليف القلوب حتى جعل للمؤلفة قلوبهم نصيباً من الصدقات"(10)  

 


(1)  -أبو حاتم البستي – روضة العقلاء, ونزهة الفضلاء –تحقيق محمد محي الدين ص96 ,دار الكتب العلمية – بيروت 1397 ه .

(2)  -ابن القيم زاد المعاد (3 /161 ). ويشير في الجملة الأخيرة إلى قوله تعالى ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فالذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) سورة فصلت الآية 34  .

(3)  -هو الطفيل بن عمرو بن طريف الدوسي,كان شريفا شاعرا لبيبا,أسلم والرسول صلى الله عليه وسلم في مكة,وعاد إلى قومه يدعوهم,قتل يوم اليمامة شهيدا. أسد الغابة (2/462 ) الإصابة (2/216 ).

(4)  -متفق عليه,ابن حجر فتح الباري (6 /107 – 108 ) النووي شرح صحيح مسلم (5 /358 ).

(5)  -انظر : ابن حجر – فتح الباري (8 /103 ).

(6)  -رواه مسلم , النووي شرح صحيح مسلم (5 /169 ).

(7)  -هو صفوان بن أمية بن خلف القرشي الجمحي , من المؤلفة قلوبهم , مات أيام قتل عثمان , وقيل غير ذلك , أسد الغابة (2/405 ). الإصابة (2/181 ).

(8) -رواه مسلم , النووي شرح صحيح مسلم (5 /170  ).

(9) -أبو حاتم البستي – روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص243 .

(10) - الحسبة ص 88-89.

 



بحث عن بحث