المعتزلة وموقفهم من السنة النبوية(5- 8)

 

موقف المعتزلة من السنة المطهرة :

لما كان المعتزلة لا يؤمنون إلا بما يتفق مع عقولهم وأصولهم الخمسة، وكان هناك من الأحاديث النبوية ما يهدم مذهبهم ويناقض أدلتهم، كان موقفهم من السنة غاية في الخطورة، ولا نكاد نكون مبالغين إذا قلنا : بأنهم كادوا يهدمون المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، فهم تناقضوا في موقفهم من السنة ونشأ التناقض بتشبثهم بالعقل إلى ما يشبه تقديسه وتأليهه، ورفض ما يتعارض معه أو تأويله بما لا يخالف رأيهم، ولذلك وقعوا في كثير من الهنات والتناقضات دفعتهم إليها نزعتهم العقلية .

موقفهم من الخبر المتواتر :

درج المعتزلة على مخالفة إجماع الأمة على إفادة المتواتر القطع . فذهب بعضهم إلى إنكار حجية المتواتر وإفادته العلم، وتجويز وقوعه كذباً، وحكي الإمام أبو منصور البغدادي ذلك عن "النظامية"، وهم فرقة من المعتزلة فقال في الفضيحة السادسة عشرة من فضائح النَّظَّام :" قوله بأن الخبر المتواتر مع خروج ناقليه عند سماع الخبر عن الحصر، ومع اختلاف همم الناقلين واختلاف دواعيها يجوز أن يقع كذباً، هذا مع قوله بأن من أخبار الآحاد ما يوجب العلم الضروري . وقد كفره أصحابنا مع موافقيه في الاعتزال في هذا المذهب الذي صار إليه"(1) .

ثم قال في الفضيحة السابعة عشرة من فضائحه : "تجويزه إجماع الأمة في كل عصر، وفي جميع الأعصار على الخطأ من جهة الرأي والاستدلال، ويلزمه على هذا الأصل أن لا يقف بشيء مما اجتمعت الأمة عليه، لجواز خطئهم فيه عنده، وإذا كانت أحكام الشريعة منها ما أخذه المسلمون عن خبر متواتر، ومنها ما أخذوه عن أخبار الآحاد، ومنها ما أجمعوا عليه وأخذوه عن اجتهاد وقياس، وكان النظام دافعاً لحجة التواتر، ولحجة الإجماع، وقد أبطل القياس وخبر الواحد إذا لم يوجد العلم الضروري، فكأنه أراد إبطال أحكام فروع الشريعة لإبطاله طرقها أ.هـ.(2) .

والمعتزلة : هم أول الفرق التي اشترطت في قبول الأخبار العدد كما في الشهادة،وما أرادوا بذلك الشرط إلا تعطيل الأخبار والأحكام الواردة فيها .

وفي ذلك يقول الإمام الحازمي : "ولا أعلم أحداً من فرق الإسلام القائلين بقبول خبر الواحد اعتبر العدد سوى متأخري المعتزلة؛فإنهم قاسوا الرواية على الشهادة، واعتبروا في الرواية ما اعتبروا في الشهادة، وما مغزى هؤلاء إلا تعطيل الأحكام كما قال أبو حاتم ابن حبان(3) .

وها هم رؤساء المعتزلة يصرحون باشتراط العدد ويتناقضون في نسبته .

فيحكى الإمام أبو منصور البغدادي عن الهذيلية وهم فرقة من المعتزلة فقال في الفضيحة السادسة من فضائح أبى الهذيل قوله :" إن الحجة من طريق الأخبار فيما غاب عن الحواس من آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وفيما سواها، لا تثبت بأقل من عشرين نفساً فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر، ولم يوجب بأخبار الكفرة والفسقة حجة وإن بلغوا عدد التواتر الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب إذا لم يكن فيهم واحد من أهل الجنة، وزعم أن خبر ما دون الأربعة لا يوجب حكماً، ومن فوق الأربعة إلى العشرين قد يصح وقوع العلم بخبرهم، وقد لا يقع العلم بخبرهم، وخبر العشرين إذا كان فيهم واحد من أهل الجنة يجب وقوع العلم منه لا محالة، واستدل على أن العشرين حجة بقول الله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [سورة الأنفال /65 ] . وقال : لم يبح لهم قتالهم إلا وهم عليهم حجة، وهذا يوجب عليه أن يكون خبر الواحد حجة موجبة للعلم؛ لأن الواحد في ذلك الوقت كان له قتال العشرة من المشركين، فيكون جواز قتاله لهم دليلاً على كونه حجة عليهم .

قال الإمام عبد القادر البغدادي : ما أراد أبو الهذيل باعتبار عشرين في الحجة من جهة الخبر إذا كان فيهم واحد من أهل الجنة إلا تعطيل الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية عن فوائدها لأنه أراد بقوله : "ينبغي أن يكون فيهم واحد من أهل الجنة، واحداً يكون على بدعته في الاعتزال والقدر وفي فناء مقدورات الله عزَّ وجلَّ لأن من لم يقل بذلك لا يكون عنده مؤمناً ولا من أهل الجنة، ولم يقل قبل أبى الهذيل أحد ببدعة أبى الهذيل حتى تكون روايته في جملة العشرين على شرطه(4).

ونقل الإمام الآمدي في الإحكام : اتفاق الجمهور من الفقهاء، والمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة على أن العلم الحاصل عن خبر التواتر ضروري .وقال الكعبي ، وأبو الحسين البصري، من المعتزلة، والدقاق من أصحاب الشافعي؛ أنه نظري(5) .

ثم اختلف هؤلاء في أقل عدد يحصل معه العلم(6) .

ويحكى الإمام ابن حزم مثل ما حكاه الحافظ الحازمي : من أن المعتزلة : هم أول من اشترطوا العدد في قبول الأخبار، فخالفوا بذلك جميع أهل الإسلام فقال : "إن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة على النبي صلى الله عليه وسلم . يجرى على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة، والخوارج، والشيعة، والقدرية حتى حدث متكلموا المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع بذلك، ولقد كان عمرو بن عبيد يتدين بما يروى عن أبى الحسين البصري من المعتزلة ويفتى به، هذا أمر لا يجهله من له أقل علم(7).

وإذا كان الحازمي حكى في شروط الأئمة الخمسة عن بعض متأخري المعتزلة اشتراط العدد في الرواية كما في الشهادة، وحكى ذلك أيضاً عن بعض أصحاب الحديث كما حكاه السيوطي (8).

فقد أجاب شيخ الإسلام ابن حجر رضي الله عنه عن حكاية ذلك الشرط عن بعض أصحاب الحديث بقوله : "وقد فهم بعضهم ذلك من خلال كلام الحاكم في معرفة علوم الحديث، وفي المدخل إلى الأكليل عند كلامه في شرط البخاري ومسلم، وبذلك جزم ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول وغيره، ولا حجة لهم فيما فهموه، ومنقوض بما في الصحيحين من الغرائب الصحيحة التي تفرد بها بعض الرواة"(9) .

يقول الحافظ ابن حجر : وقد وهم بعضهم حيث نسب إلى الحاكم أنه ادعى أن شرط الشيخين رواية الاثنين، ولكنه غلط على الحاكم(10) .


(1) - الفرق بين الفرق ص 137، وانظر : الانتصار للخياط ص 230، وآراء المعتزلة الأصولية دراسة وتقويماً للدكتور على بن سعد بن صالح ص 347.

(2) - الفرق بين الفرق ص 137، 138، وانظر : الانتصار للخياط ص 232، والملل والنحل 1 /50، وتأويل مختلف الحديث ص 28.

(3) - شروط الأئمة الخمسة ص 47

(4) - الفرق بين الفرق ص 124، 125، وانظر : الملل والنحل 1 /47.

(5) - الإحكام للآمدي 2 /27، وانظر : المسودة في أصول الفقه آل تيمية ص 234.

(6) - الإحكام للآمدي 2 /39، والمسودة في أصول الفقه ص 236، والبرهان 1 /217.

(7) - الإحكام لابن حزم 1 /110، وانظر : الاعتصام للشاطبي 1 /187.

(8) - تدريب الراوي 1 /70.

(9) - تدريب الراوي 1 /71

(10) - فتح الباري 13 /246 أرقام 7250 - 7257، وانظر : سؤالات مسعود بن على السجزي للحاكم ص 209 رقم 267.

 



بحث عن بحث