شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (13)

 

 

الموقف العملي للمحدثين من هذه الأحاديث:

ومع أن أحاديث عرض السنة على القرآن الكريم لا وزن لها سندًا عند أهل العلم كما سبق، إلا أن معناها صحيح وعمل بها المحدثون في نقدهم للأحاديث متنًا فجعلوا من علامات وضع الحديث مخالفته لصريح القرآن الكريم والسنة النبوية والعقل.

إلا أنهم وضعوا لذلك قيدًا وهو استحالة إمكان الجمع والتأويل، فإذا أمكن الجمع بين ما ظاهره التعارض من الكتاب أو السنة أو العقل _ جمعًا لا تعسف فيه يصار إلى الجمع والقول معًا ولا تعارض حينئذ، وإن كان وجه الجمع ضعيفًا باتفاق النظار، فالجمع عندهم أولى(1) .

وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها، وإلا فلنتعرف على الناسخ والمنسوخ فنصير إلى الناسخ ونترك المنسوخ، وإلا نرجح بأحد وجوه الترجيحات المفصلة في كتب الأصول وعلوم الحديث(2) ،والعمل بالأرجح حينئذ متعين، وهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأسًا، جهلاً به أو عنادًا كما قال الشاطبي(3).

وإن لم يتمكن العالم من ذلك للتعادل الذهني فاختلفوا على مذاهب منها:

1 - التخيير

 2 - تساقط الدليلين والرجوع إلى البراءة الأصيلة

3 - الأخذ بالأغلظ

4 - التوقف.

ومعلوم بأن التوقف هنا حتى يمكن الجمع أو التأويل أو الترجيح.

وكل ما سبق قال به من المعتزلة صاحب المعتمد في أصول الفقه في باب الأخبار المعارضة، وباب ما يترجح به أحد الخبرين على الآخر"(4).

قال الحافظ ابن حجر: "فصار ما ظاهرة التعارض واقعًا على هذا الترتيب الجمع إن أمكن، فاعتبار الناسخ والمنسوخ، والترجيح إن تعين، ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين، والتعبير بالتوقف أولى من التعبير بالتساقط، لأن خفاء ترجيح أحدهما على الآخر، إنما هو بالنسبة للمعتبر في الحالة الراهنة مع احتمال أن يظهر لغيره ما خفى عليه وفوق كل ذي علم عليم"(5)

ولا أعلم نقلاً عن أحد من العلماء برفض ورود الحديث بمجرد المخالفة الظاهرية مع القرآن الكريم، أو السنة، أو العقل مع إمكان الجمع، أو التأويل، أو الترجيح، حتى من نقل عنهم الأصوليون إنكار الترجيح وردوا عليهم إنكارهم، قالوا عند التعارض: يلزم التخيير أو الوقف(6) .

نعم لم ينقل رد السنة وجحدها بمجرد المخالفة الظاهرية إلا عن أهل البدع والأهواء كما حكاه عنهم الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام (7)، وتابعهم ذيولهم في العصر الحديث من أصحاب المذاهب اللادينية.


 


(1) قال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول: "والدليل القاطع ضربان: عقلي، وسمعي فإن كان المعارض عقليًا نظرنا فإن كان خبر الواحد قابلاً للتأويل كيف كان أولناه فلم نحكم بردة " انظر: المحصول في أصول الفقه 2/ 210.

(2) انظر: إرشاد الفحول 2/ 369 _ 408، والمحصول في أصول الفقه 2/ 434 _ 488، والإحكام للآمدي 4/ 206، والموافقات للشاطبي 4/ 640، والمستصفى للغزالي 2/ 392، والإبهاج في شرح المنهاج 3/ 208، والبحر المحيط 6/ 108 _ 194، والمعتمد في أصول الفقه 2/ 176 _ 178، وأصول السرخسي 2/ 145، 249، وفتح المغيث للعراقي ص 337 _ 339، وتدريب الراوي 2/ 198 _ 203، والاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي ص 59 _ 90، وانظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص 172، 173.

(3) الاعتصام باب في مأخذ أهل البدع بالاستدلال 1/ 200، 201، وانظر: الإحكام لابن حزم 1/ 161.

(4) المعتمد في أصول الفقه 2/ 176، 188، وانظر: البحر المحيط 6/ 115، والمسودة في أصول الفقه لآل تيمية ص 449.

(5) نزهة النظر ص 35، وانظر: فتح المغيث للسخاوي 3/ 73، وتدريب الراوي 2/ 202.

(6) الإبهاج في شرح المنهاج 2/ 209، وفتح المغيث السخاوي 3/ 73.

(7) الاعتصام باب في مأخذ أهل البدع بالاستدلال 1/ 199.



بحث عن بحث