شبهات حول السنة والرد عليها(2)

 

والجواب عن هذه الشبهة :

إن أعداء السنة المطهرة فهموا أن المراد من الكتاب فى قوله تعالى ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) القرآن، ولكن مجموع الآيات ابتداء ونهاية، يفيد أن المراد بالكتاب هنا هو اللوح المحفوظ الذى حوى كل شيء، واشتمل على جميع أحوال المخلوقات كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، على التفصيل التام كما جاء فى الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" . قال : "وعرشه على الماء"(1) .

وهذا هو المناسب لذكر هذه الجملة عقب قوله تعالى : ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ) . والمثلية فى الآية ترشح هذا المعنى؛ لأن القرآن الكريم لم ينظم للطير حياة كما نظمها للبشر، وإنما الذى حوى كل شيء  للطير والبشر، وتضمن ابتداءً ونهاية للجميع هو اللوح المحفوظ .

يقول الحافظ ابن كثير : "أي الجميع علمهم عند الله عز وجل، لا ينسى واحداً من جميعها، من رزقه وتدبيره سواء كان برياً أو بحرياً؛ كقوله تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ سورة هود / 6 ] . أي مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها وحاصر لحركاتها وسكناتها"(2)  . والآية نظير قوله تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ سورة الأنعام / 59 ].

وقوله تعالى : ( عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ سورة سبأ/ 3 ].

وعلى هذا الأساس، ففهم أن المراد بالكتاب فى قوله تعالى :( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ). هو القرآن غير دقيق، ويأباه السياق العام للآية وربطها بما قبلها، وبغيرها من الآيات التي فى معناها وسبق ذكرها .

ومن المعلوم بداهة أن الكلمة فى اللغة العربية يكون لها أكثر من معنى، ويتحدد المعنى المراد منها من خلال سياق الكلام الذى وردت فيه.

 وكلمة "الكتاب" تجيء فى القرآن بمعنى الفرض، والحكم، والقدر.  فبمعنى القدر قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ) [ سورة آل عمران / 145 ]  .

يقول الحافظ ابن كثير : أى لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التى ضربها الله له، ولهذا قال تعالى : ( كتاباً مؤجلاً ) . وكقوله تعالى ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ) [ سورة فاطر / 11 ]  . وكقوله تعالى : ( الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) [ سورة الأنعام / 2 ] (3)   .

وبمعنى الفرض قوله تعالى :( إن الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) [ سورة النساء /103 ]  قال ابن عباس أي مفروضاً (4) . والكتاب يأتي فى القرآن الكريم تارة مراداً به اللوح المحفوظ كما سبق وأن بينا، وتارة أخرى يأتي مراداً به القرآن الكريم كما في قوله تعالى : ( الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) [ سورة إبراهيم / 1 ]. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة .


(1)  ــ أخرجه مسلم ، كتاب القدر ، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام ( 2653 ) .

(2)  ــ تفسير ابن كثير 2 / 2 / 131 ، 132 .

(3) ــ انظر : تفسير ابن كثير 1 / 410 .

(4)  ــ تفسير ابن كثير 1 / 550 .

 



بحث عن بحث