القاعدة الثامنة:

سلامة السند والقدح في المتن

الأصل في صحة المتن أن يكون السند صحيحًا ولكن لا يلزم من سلامة السند وصحتهِ صحةُ المتن، فقد يكون السند سليمًا في الظاهر والمتن ضعيفًا، مثل أن يكون المتن شاذًّا، أو فيه علة قادحة.

كون الحديث جاء بإسناد حسن أو صحيح، فمعناه أنناتحققنا من ثلاثة شروط فقط من شروط الصحة، وهي اتصال السند، وضبط الرواة، وعدالتهم،وأما باقي الشروط، وهي ألَّا يكون الحديث شاذًّا ولا معلولًا، فهي لا تتحقق إلابجمع طرق الحديث ورواياته، وقد تتابعت أقوال أهل العلم على أهمية جمع طرقالحديث:

قال الإمام ابن المبارك: «إذاأردت أن يصح لك الحديث، فاضرب بعضه ببعض».

وقال الإمام ابن المديني: «الباب إذا لم تجمع طرقه لميتبين خطؤه».

وقال الإمام أبو بكرالخطيب: «السبيل إلى معرفة علة الحديث، أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته،ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط».

فلا إشكال أصلًا أن يحكم أئمةالحديث على حديث بالنكارة أو الشذوذ أو حتى الوضع، مع أنه صحيح الإسناد فيالظاهر! وهذا كثير في كلامهم؛ يتضح لمنتصفح كتب العلل، ككتاب العلل لابن أبي حاتم، وغيره.

وبيانها: دراسة الحديث لا بد أن تكون من جهتين:

الأولى: من جهة السند، والثانية: من جهة المتن. فقد يكون السند سليمًا رجاله ثقات وسنده متصل، ولكن القدح جاء من جهة متنه، إما بشذوذ أو علة قادحة.

والشذوذ في المتن :

الشاذ: لغة: اسم فاعل من شذ شذوذا، بمعنى انفرد من غيره.

واصطلاحًا: ما رواه المقبول مخالفًا من هو أولى منه في المتن أو في السند.

ومثاله: ما رواه أبوداود والترمذي من حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي هريرة حدَّثنا بشرُ بن معاذ العقدي حدثنا عبد الواحد ابن زياد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه».

  • قال البيهقي: «خالف عبد الواحد الكثير في هذا، فإن الناس إنما روه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا من قوله، وانفرد عبد الواحد من بين ثقات أصحاب الأعمش بهذا اللفظ».

أما العلة في المتن :

فالمعلّ لغة: اسم مفعول من أعله: أنزل به علة فهو معل.

وفي الاصطلاح: الحديث الذي اطلع فيه على علة قادحة مع أن الظاهر سلامته منها.

والعلة التي يكون بها الحديث معلا: هي ذلك السبب الخفي الغامض الذي يقدح في صحة الحديث وإن كان سليما منها في ظاهر الأمر.

وخفاء العلة جعل إدراكها أمرًا عسير المنال، لا يقوى عليه إلا الحافظ المتقن ذو الفهم الثاقب والبصيرة النافذة، والملكة التي تكونت من طول الخبرة والمعاناة.

  • قال عبد الرحمن بن مهدي: «معرفة الحديث الهام».
  • قال ابن حجر: «المعلل من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله تعالى فهما ثاقبا، وحفظا واسعا، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون».

مثال العلل :

  • قال ابن أبي حاتم سألت أبي عن حديث رواه بقية عن أبي وهب الأسدي عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب فإن تلقاه اشتراه مشترٍ فإن صاحب السلعة بالخيار إذا دخل المصر ما بينه وبين نصف النهار».

فسمعت أبي يقول: ليس في شيء من الحديث «إذا دخل المصر، فإن صاحبه بالخيار ما بينه وبين نصف النهار».

فعلة هذا، كما ترى، الإدراج في آخر الحديث.

القواعد التي يتبعها النقاد للكشف عن العلة في الحديث :

1- مقارنة حديث الراوي بحديث أقرانه.

2- إذا خالف الراوي في روايته عن شيخ من هو أثبت الناس في هذا الشيخ، فإن روايته تكون معلولة.

3- مخالفة ما روى عن الراوي لما في كتبته أو عدم وجود فيها فيصير الحديث المخالف معلولًا.

4- تصريح الشيخ بأنه لم تبلغه في باب ما رواية، ثم يُروى عنه حديث عنه حديث في هذا الباب.

5- أن لا يكون الراوي قد سمع حديث الشيخ، وإنما وقع إليه كتاب ذلك الشيخ فرواه عنه.

6- أن يكون الحديث مخالفًا لرواية الثقات.

7- أن يكون الحديث معروفًا عن قوم فهم أعلم به وأخبر، ثم يأتي من يخالفهم.

8- أن يأبى سياق الحديث كونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومما يقدح في المتن مع سلامة السند:

m  الاضطراب :

والحديث المضطرب هو: الذي يروى من قبل راو واحد أو أكثر على أوجه مختلفة متساوية، لا مرجع بينهما، ولا يمكن الجمع.

مثال مضطرب المتن :

ما رواه مسلم من حديث الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدَّثه قال: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بحمد الله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها».

فقد أعل ابن عبد البر هذا الحديث بالاضطراب؛ لأن البخاري ومسلم قد اتفقا على إخراج رواية أخرى في الموضوع نفسه لا يتعرض فيها لذكر البسملة، بنفي أو إثبات، ويكتفي الراوي بقوله: «كانوا يستفتحون بـ (الحمد لله رب العالمين)».

قال العراقي:

مضطرب الحديث ما قد وردا
في متن أو في سندٍ إن اتضح

  مختلفًا من واحدٍ فأزيـدا
فيه تساوى الخلف أما إن رجح

m  المقلوب :

وهو الحديث الذي تعرف في سنده أو متنه بتقديم أو تأخير ونحوه عمدًا أو سهوًا.

قال العراقي:

المدرج الملحق آخر الخبر

  من قول راوٍ ما، بلا فضلٍ ظهر

مثاله:ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعةُ يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله: الإمام العادل، وشابٌّ نشأ بعبادة الله، ورجلٌ قلبه معلقٌ في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقَا عليه، ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال فقال إنِّي أخاف الله، ورجلٌ تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا يعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناهُ».

وهذا انقلب على راويه، والحديث مروي في البخاري وغيره من طرق بلفظ «حتى لا تعلم شمالُهُ ما تنفق يمينه».

m  المدرج :

وهو الحديث الذي اطلع في متنه أو إسناده على زيادة ليست منه، والإدراج في المتن يكون في أوله أو وسطه أو آخره.

مثاله: ما رواه الخطيب من رواية أبي قطن، وشبانه، عن شعبة، عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسبغ الوضوء ويلٌ للأعقاب من النار».

فقوله أسبغوا الوضوء مدرج من حديث أبي هريرة، كما بين في رواية عند البخاري.

* *   *

فتبين من هذا أن الإسناد قد يكون ظاهره صحيحًا، ولا يلزم من ذلك صحة المتن – كما سبق – وبناءً عليه فيلزم طالب الحديث أن يتثبت من خلو المتن من الموانع والعلل التي سبقت الإشارة إلى بعضها قبل الحكم على المتن بالصحة بناء على صحة الإسناد.



بحث عن بحث