ثانيًا: ضبط الصحابة :

يمكننا حصر الكلام في أبي هريرة ط باعتباره الصحابي الذي نال من الهجوم أكثر من غيره «أعني من المستشرقين ومن تبعهم».

فإذا أثبتنا ضبط أبي هريرة وحفظه - وهو الذي روى خمسة آلاف حديث كما يقدر بعض المحدثين - فإن حفظ الصحابة الآخرين وضبطهم يكون أمرًا مفروغًا منه.

1- ينبغي أن نقدر الأمور قدرها، فالأحاديث التي رواها أبو هريرة ط ليست كلها أقوالًا، بل جزء منها أفعال وتقريرات وهذه يسوغ روايتها بالمعنى ولا تشقى الذاكرة بحفظها لأن حفظ الحدث وحكايته بأي لفظ ليس أمرًا خارقًا للعادة حتى نتهم به أبا هريرة ط.

ثم إن حفظ أبي هريرة لهذه الآلاف من الأحاديث ليس بمستغرب أمام حفظ الصحابة لآلاف الأبيات الشعرية وروايتها، فحفظ أبي هريرة في سياقه طبيعي وعادي بالموازنة مع قدرات أهل جيله وليس أمرًا خارقًا للعادة كما بينا.

وبعض الصحابة ثبت عنهم اتخاذ موقفين من أبي هريرة.

الأول: تخطئته في بعض الأحاديث، كما ثبت عن عائشة ك أنها خطأت أبا هريرة في روايته لحديث: «إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» وأن أبا هريرة سمع الحديث مبتورا فرواه على غير وجهه، ولم تكذبه ك .

الثاني: أن الصحابة اتهموا أبا هريرة بالإكثار من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان الموقفان دليلًا واضحان على أمور:

الأول: عدالة أبي هريرة ط وصدقه، إذ لو كان كاذبًا لكذبوه بل لمنعوه من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أن ما رواه أبو هريرة ط عرفه الصحابة وأقروه عليه، إذ لو كان يروي حديثًا ما سمعه أحد منهم لكان أسهل شيء عليهم أن يقولوا له: كذبت، كلنا لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث.

الثالث: على أقل تقدير يقال: إن الصحابة إذا شكوا في حديث رواه أبو هريرة لم يجرءوا على تكذيبه لتسليمهم بأنه كان منقطعًا لسماع الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرابع: أن أبا هريرة استمر يروي الحديث حتى مات ط، وهذه السنون الطوال كافية في أن يختبر الصحابة حديثه ويعرضوه على ما يعرفون، فلما لم يفعلوا دل على تسليمهم بذلك.

والمنهج العلمي يقتضي منا القول أن أحاديث أبي هريرة على وجه الخصوص تكتسب مصداقية عالية لأنها كانت محل انتقاد الصحابة في كثرتها ولكنهم – أي المستشرقون ومن نحا نحوهم - عجزوا عن إقامة الدليل على كذبه- مع ثبوت تخطئته في البعض – فيكون مثل ذلك دليلًا على حصول إجماع سكوتي على الأحاديث التي رواها أبو هريرة ط.

*   *   *

وبهذا العرض يتبين أن ضبط الصحابة متوافق مع المنهج العلمي، متناسق مع أصول النقد، ومع ذلك فالمحدثون قد يشيرون إلى خطأ الصحابي إذا ثبت ذلك بالبينة والبرهان.

ووهمت عائشة ك ابن عمر في تواريخ اعتمار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النووي: «سكوت ابن عمر على إنكار عائشة يدل على أنه كان قد اشتبه عليه أو نسي أو شك».

وقال ابن حجر: «وفيه دليل على أنه قد يدخل الصحابي الوهم والنسيان لكونه غير معصوم».

ووهم سعيد بن المسيب عبد الله بن عباس في قوله: «تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم».

2- من المستشرقين من شكك في بدايات الإسناد كما فعل كايتاني (ت1926م) الذي زعم في حولياته «أن الأسانيد أضيفت إلى المتون فيما بعد بتأثير خارجي، لأن العرب لا يعرفون الإسناد، وأن استعمال الأسانيد إنما بدأ أول ما بدأ بين عروة بين الزبير المتوفى سنة 94هــ، وابن إسحاق المتوفى سنة 151هـ، وأن عروة لم يستعمل الإسناد مطلقًا، وابن إسحاق استعملها بصورة ليست كاملة.

وأشار «شبرنجر» (ت 1893م) إلى تعاسة نظام الإسناد وأن اعتبار الحديث شيئًا كاملًا سندًا ومتنًا قد سبَّب ضررًا كثيرًا وفوضى عظيمة، وأن أسانيد عروة مختلقة ألصقها به المصنفون المتأخرون.

وأما «ميور» معاصر «شبرنجر»، فينتقد طريقة اعتماد الأسانيد في تصحيح الحديث، لاحتمال الدس في سلسلة الرواة، وأما «شاخت» ولد (1902م)، فقد أجرى دراسة على الأحاديث الفقهية وتطورها – على حد زعمه – أجراها على كتابي «الموطأ» لمالك و«الأم» للشافعي وعمم نتائج دراسته على كتب الحديث الأخرى، ثم خلص إلى أن السند جزء اعتباطي في الأحاديث، وأن الأسانيد بدأت بشكل بدائي، حتى وصلت إلى كمالها في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وأنها كانت كثيرًا ما لا تجد أقل اعتناء، ولذا فإن أي حزب يريد نسبة آرائه إلى المتقدمين كان يختار تلك الشخصيات فيضعها في الإسناد».

ووُجد مع الأسف الشديد فيمن ينتسب إلى الإسلام من ردد أقوال المستشرقين فيما يتعلق بالإسناد ومدى الحاجة إليه، حتى وصف بعضهم أهل الحديث بأنهم «عبيد الأسانيد»، و«أسرى الأسانيد»، وأن الإسناد نوع من التزمت، وأن المبالغة في الاعتداد به، وربط الأحكام الشرعية به، واعتباره بالدرجة الأولى أساسًا لصحة الحديث، قد أثمر افتراقًا كبيرًا بين المسلمين، وحولهم إلى فرق وأحزاب يعارض بعضها بعضًا، ويقاتل بعضها بعضًا، ويكيد بعضها لبعض على مر السنين.

وقبل مناقشة هذه المزاعم لا بد من التنبيه على أن من الأسباب التي جعلت المستشرقين يتوصلون إلى هذه النتيجة في حكمهم على الأحاديث النبوية، أنهم لم يجروا دراستهم على كتب الحديث المعتمدة التي عنيت بذكر الأسانيد وعولت عليها، بل اختاروا الكتب التي تكون دراستها للحديث غير مقصودة لذاتها ككتب السيرة والفقه مثلًا، فـ«شاخت» عندما أصدر حكمه هذا على الأسانيد أصدره بناء على دراسة قام بها لكتاب «الموطأ» للإمام مالك، و«الموطأ» للإمام محمد الشيباني، وكتاب «الأم» للشافعي، ومن المعلوم أن هذه الكتب أقرب ما تكون إلى الفقه من كتب الحديث، وعلى الرغم من ذلك فقد عمم نتيجته التي توصل إليها في دراسته لتلك الكتب، وفرضها على كافة كتب الحديث، وكأنه ليس هناك كتب خاصة بالحديث النبوي، وكأنه ليس هناك فرق بين طبيعة كتب الفقه وكتب الحديث.

فقد يحذف الفقهاء جزءًا من الإسناد اكتفاءً بأقل قدر ممكن من المتن الذي يدل على الشاهد والمقصود وذلك تجنبًا للتطويل، وقد يحذفون الإسناد بكامله، وينقلون مباشرة عن المصدر الأعلى، وقد يستعملون الإسناد أحيانًا، ويقطعونه أحيانًا.

وبهذا يتبين بأن كتب السيرة وكتب الفقه ليست مكانًا صحيحًا لدراسة ظاهرة الأسانيد ونشأتها وتطورها.

وأما ما يتعلق بتفنيد هذه المزاعم فمن المعلوم لدى كل منصف أنه لم يلق علم من العلوم الإسلامية في جميع جوانبه وفروعه ما لقيه علم الحديث من العناية والاهتمام، وما هذه القواعد في هذا الكتاب إلا دليل على اهتمامهم وسيرهم وفق منهج علمي بالغ الدقة.

فهل بعد هذا كله يقال: إن الأسانيد لم تجد أدنى اعتناء، وأنها كانت أمرًا اعتباطيًا بحيث يتسنى لمن شاء أن يختلق إسنادًا وينسبه إلى من يريد لينصر مذهبه أو طائفته أو حزبه- كما يقول المستشرقون وأذنابهم – من غير أن يميز ذلك أئمة هذا الشأن الذين خصهم الله لحفظ دينه وحراسة سنة نبيه، سبحانك هذا بهتان عظيم.

بقي أن نقول ونحن نختم هذه القاعدة أن قضية الشبهات تتطور في كل عصر لكن أصولها واحدة، وما أشير إليها هنا هو الإشارة قضية الإسناد فقط، وإلا فموضوع الشبهات يزيد على هذا بكثير.

حمى الله سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من كيد الكائدين وشبهات الحاقدين وجهل الجاهلين إنه قريب مجيب.



بحث عن بحث