الأداة الأولى: معرفة أسباب ورود الحديث:

سبب الورود: هو نوع من أهم أنواع علوم الحديث، ويراد به السبب الذي بسببه قال النبي صلى الله عليه وسلم الحديث.

وأسباب الورود أوفى ما يجب الوقوف عليه، وأولى ما تنصرف إليه العناية لامتناع فهم الحديث ومعرفة أغراضه ومقاصده، دون الوقوف على قصته، وبيان بيئته والحال التي اكتنفت وروده؛ لأن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، والجهل به مورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال بحيث لا يفهم المقصود به ابتداء، فيفتقر المكلف عند العمل به إلى بيانه، وهذا الإجمال قد يقع للمكلفين، وقد يقع لبعضهم دون بعض، أو يتوهم أن بعض المناطات داخل في الحكم، أو خارج عنه، ولا يكون كذلك في الحكم، وذلك مظنة إنزال الحديث في غير محله، وفهمه على غير المقصود منه، فأسباب الورود طريق قوي إلى فهم معاني الحديث وتنزلاته؛ لأنها الباعث على إنشاء النبي صلى الله عليه وسلم له.

ولنضرب مثالًا على أثر أسباب الورود في فهم الحديث فهما صحيحًا، وأن عزل الحديث عن سبب وروده قد يترتب عليه إشكالات في الفهم.

روى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه : «أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يلقحون، فقال: «لو لم تفعلوا لصلح» قال: فخرج ....، فمرّ بهم، فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».

فهذا الحديث قد تنازعه فريقان:

الفريق الأول: وهم الذين اتخذوا من هذا الحديث تكأة للتهرب من أحكام الشريعة في المجالات الاقتصادية والمدنية والسياسية ونحوها لأنها ـ كما زعموا ـ من شئون دنيانا، ونحن أعلم بها، وقد وكلها الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا.

الفريق الثاني: وقد استشكل هذا الحديث فحاولوا القدح في متنه أو إسناده لأنهم يرون كل شيء من أمر الحياة لابد أن يكون فيه تشريع.

وكلا الفهمين أغفل دراسة السبب لتسلم النتيجة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مزارعًا لأنه عاش في بيئة مكة ـ وهي واد غير ذي زرع ـ فسئل فأجاب بحدود علمه في هذا الشأن، وهو ليس من شئون الحياة التشريعية، بل هو من الشؤون الحياتية البحتة.

وإن الذي أثبته أهل العلم في فهم هذا الحديث على ضوء سبب وروده، أن هذا الموقف التعليمي التربوي الذي يفهم من قصة هذا الحديث، وهي حادثة تأبير النخل، يخاطب المسلمين في الأمور المتغيرة، والتي تخضع للخبرة والتجربة، والتحسين المستمر، بما ييسره الله تعالى لعباده في كل زمان، مع الاسترشاد بما جعل الله لعباده من الأصول العامة التي ترشد هذه المتغيرات. «فما يراه النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدنيا ومعايشها إذا لم يكن على جهة التشريع، فهو غير ملزم للأمة، فأما ما قاله صلى الله عليه وسلم باجتهاده ورآه على جهة التشريع فهو مما يجب العمل به، ولم يكن قوله صلى الله عليه وسلم في تأبير النخل خبرًا صدر منه على جهة التكليف والأمر، وإنما كان ظنًّا كما صرحت به بعض روايات الحديث، فرأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش، وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق همهم بالآخرة ومعارفها».

¡¡¡

ومن المعلوم أن دلالة النصوص الشريعة ليست محصورة في القضايا التي كانت سببًا لمجيئها، وإنما هي علاج لتلك القضايا ولما قد يستجد على شاكلتها، فنصوص التشريع الإسلامي خالدة وعامة لكل البشر في كل زمان ومكان، فلا تحصر دلالة النصوص فيما جاءت بسببه وإنما تظل دلالة النص ممتدة في كل القضايا التي تنطبق عليها، سواء ما كان منها سببًا للورود أو غيرها، فوظيفة أسباب الورود وظيفة كشف وإبانة وتجلية لمعنى النص، وليست أداة تخصيص للنص عن عمومه وشموله وتناوله لكل ما يستجد من القضايا التي تندرج تحت ذلك العموم.

ولذلك فإن القول بحصر دلالة النص في سبب وروده يعتبر وأدًا للنصوص ومحاصرة لها عن أن تكون تشريعًا خالدًا لكل زمان ومكان، وقصرها على وقائع ذلك المجتمع الذي جاءت فيه لا يمتد سلطانها التشريعي إلى بقية الأزمان، وهذا ما يتنافى مع طبيعة شريعة الإسلام الخاتمة الملزمة والصالحة لكل الناس في كل زمان ومكان، ولهذا فقد تنبه علماؤنا إلى هذا الأمر وأرسوا قاعدة: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب».

ومن هنا تبرز دلالة: معرفة أسباب ورود الحديث إذا كان له سبب فالسبب يفسر المراد أو يوجهه، ويعين على فهمه، ويحل مشكله.



بحث عن بحث