الوقفة الثانية:

المعنى الإجمالي

في معنى الحديث المنهجي وجدت من المناسب أن أنقل كلام بعض الشراح ليكون منهجًا للتأصيل، وأدع التفصيل في الوقفات الآتية:

قال المباركفوري في تحفة الأحوذي وهو يشرح الحديث المذكور:

قَوْلُهُ: «وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ» هُوَ الدَّارِمِيُّ.

«أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنِ» بْنِ أَوْسٍ الْوَاسِطِيُّ أَبُو عُثْمَانَ الْبَزَّارُ الْبَصْرِيُّ, ثِقَةٌ ثَبَتٌ مِنْ الْعَاشِرَةِ.

«عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبِ» بْنِ صُهَيْبٍ الزُّبَيْدِيِّ بِضَمِّ الزَّايِ الْحِمْصِيِّ, ثِقَةٌ مِن الرَّابِعَةِ.

«عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسِ» بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ صَحَابِيٌّ مَاتَ بِالشَّامِ قَبْلَ السِّتِّينَ أَوْ بَعْدَهَا, وَهُوَ اِبْنُ أَخِي حِسَانِ بْنِ ثَابِتٍ.

قَوْلُهُ: «الْكَيِّسُ» أَيْ الْعَاقِلُ الْمُتَبَصِّرُ فِي الأُمُورِ النَّاظِرُ فِي الْعَوَاقِبِ. «مَنْ دَانَ نَفْسَهُ» أَيْ حَاسَبَهَا وَأَذَلَّهَا وَاسْتَعْبَدَهَا وَقَهَرَهَا حَتَّى صَارَتْ مُطِيعَةً مُنْقَادَةً.

«وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ» قَبْلَ نُزُولِهِ لِيَصِيرَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَالْمَوْتُ عَاقِبَةُ أَمْرِ الدُّنْيَا, فَالْكَيِّسُ مَنْ أَبْصَرَ الْعَاقِبَةَ.

«وَالْعَاجِزُ» الْمُقَصِّرُ فِي الأُمُورِ.

«مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا» مِن الإِتْبَاعِ أَيْ جَعَلَهَا تَابِعَةً لِهَوَاهَا فَلَمْ يَكُفَّهَا عَن الشَّهَوَاتِ وَلَمْ يَمْنَعْهَا عَنْ مُقَارَنَةِ الْمُحَرَّمَاتِ.

«وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأَمَانِيَّ، فَهُوَ مَعَ تَفْرِيطِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَاتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِ لا يَعْتَذِرُ بَلْ يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأَمَانِيَّ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَالْعَاجِزُ الَّذِي غَلَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَعَمِلَ مَا أَمَرَتْهُ بِهِ نَفْسُهُ فَصَارَ عَاجِزًا لِنَفْسِهِ فَأَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَأَعْطَاهَا مَا اشْتَهَتْهُ, قُوبِلَ الْكَيِّسُ بِالْعَاجِزِ وَالْمُقَابِلُ الْحَقِيقِيُّ لِلْكَيِّسِ السَّفِيهُ الرَّأْيِ وَلِلْعَاجِزِ الْقَادِرُ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الْكَيِّسَ هُوَ الْقَادِرُ, وَالْعَاجِزَ هُوَ السَّفِيهُ وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ، أَيْ يُذْنِبُ وَيَتَمَنَّى الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ الاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ.

قَوْلُهُ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ» وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ وَرَدَّهُ الذَّهَبِيُّ قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ.

«حَاسِبُوا» بِكَسْرِ السِّينِ أَمْرٌ مِن الْمُحَاسَبَةِ.

«قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا» بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ.

«وَتَزَيَّنُوا» الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اِسْتَعِدُّوا وَتَهَيَّئُوا.

«لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ» أَيْ يَوْمَ تُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّكُمْ لِلْحِسَابِ.

«وَإِنَّمَا يَخِفُّ» بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ يَضْرِبُ أَيْ يَصِيرُ خَفِيفًا وَيَسِيرًا.

«وَيُرْوَى عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ» قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ الْجَزَرِيُّ أَبُو أَيُّوبَ أَصْلُهُ كُوفِيٌّ نَزَلَ الرَّقَّةَ ثِقَةٌ فَقِيهٌ, وَلِيَ الْجَزِيرَةَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ يُرْسِلُ مِن الرَّابِعَةِ.

وقال المناوي في فيض القدير: «الكيس» أي العاقل، قال الزمخشري: الكيس حسن التأني في الأمور، والكيس المنسوب إلى الكيس المعروف به.

وقال ابن الأثير: «الكيس» في الأمور يجري مجرى الرفق فيها.

وقال الراغب: «الكيس» القدرة على جودة استنباط ما هو أصلح في بلوغ الخير، وتسميتهم الغادر كيسًا إما على طريق التهكم أو تنبيهًا على أن الغادر يعد ذلك كيسًا.

«من دان نفسه» أي حاسبها وأذلها واستعبدها وقهرها، يعني جعل نفسه مطيعة منقادة لأوامر ربها.

قال أبو عبيد: الدين: الدأب، وهو أن يداوم على الطاعة، والدين: الحساب، قال ابن عربي: كان أشياخنا يحاسبون أنفسهم على ما يتكلمون به وما يفعلونه ويقيدونه في دفتر، فإذا كان بعد العشاء حاسبوا نفوسهم وأحضروا دفترهم ونظروا فيما صدر منهم من قول وعمل، وقابلوا كلًا بما يستحقه؛ إن استحق استغفارًا استغفروا، أو التوبة تابوا، أو شكرًا شكروا، ثم ينامون، فزدنا عليهم في هذا الباب الخواطر، فكنا نقيد ما نحدث به نفوسنا ونهم به ونحاسبها عليه.

«وعمل لما بعد الموت» قبل نزوله؛ ليصير على نور من ربه. فالموت عاقبة أمور الدنيا، فالكيس من أبصر العاقبة، والأحمق من عمي عنها وحجبته الشهوات والغفلات.

«والعاجز» المقصر في الأمور، وهذا ما وقفت عليه في النسخ ورواه العسكري بلفظ الفاجر بالفاء.

«من أتبع نفسه هواها» فلم يكفها عن الشهوات ولم يمنعها عن مقارفة المحرمات واللذات.

«وتمنى على الله» زاد في رواية: الأماني بتشديد الياء جمع أمنية، أي فهو مع تقصيره في طاعة ربه واتباع شهوات نفسه لا يستعد ولا يعتذر ولا يرجع، بل يتمنى على الله العفو والعافية والجنة مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار.

قال الطيبي: والعاجز الذي غلبت عليه نفسه وقهرته فأعطاها ما تشتهيه، قوبل الكيس بالعاجز والمقابل الحقيقي للكيس السفيه الرأي وللعاجز القادر؛ إيذانًا بأن الكيس هو القادر والعاجز هو السفيه. وأصل الأمنية ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر، ولذلك يطلق على الكذب وعلى ما يتمنى.

قال الحسن: إن قومًا ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل، ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [فصلت: 23].

وقال سعيد بن جبير: الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية ويتمنى على الله المغفرة.

قال العسكري: وفيه رد على المرجئة وإثبات الوعيد. ا.هـ.

قد أفاد الخبر أن التمني مذموم وأما الرجاء فمحمود؛ لأن التمني يفضي بصاحبه إلى الكسل بخلاف الرجاء فإنه تعليق القلب بمحبوب يحصل حالًا.

قال الغزالي: والرجاء يكون على أصل والتمني لا يكون على أصل، فالعبد إذا اجتهد في الطاعات يقول: أرجو أن يتقبل اللّه مني هذا اليسير ويتم هذا التقصير ويعفو وأحسن الظن فهذا رجاء، وأما إذا غفل وترك الطاعة وارتكب المعاصي ولم يبال بوعد الله ولا وعيده ثم أخذ يقول: أرجو منه الجنة والنجاة من النار فهذه أمنية لا طائل تحتها، سماها رجاء وحسن ظن وذلك خطأ وضلال، وهو المشار إليه في الحديث.

«تنبيه»: قال الزمخشري: الأماني جمع أمنية وهي تقدير الوقوع فيما يترامى إليه الأمل. ا.هـ.

وقال غيره: التمني طلب ما لا مطمع فيه أو ما فيه عسر، فالأول نحو قول الهرم:

- ألا ليت الشباب يعود يومًا.

- الثاني نحو قول العادم: ليت لي مالًا فأحج منه، فإن حصول المال ممكن لكن يعسر، والحاصل أن التمني يكون في الممتنع والممكن لا الواجب كمجيء الغد.

وفي الأثر: «الكيس من عمل لما بعد الموت» من حيث إنه لا خير يصل إليه الإنسان أفضل مما بعد الموت؛ لأن عاجل الحال يشترك في درك ضره ونفعه وجميع الحيوانات بالطبع، وإنما الشأن في العمل للآجل، فجدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنسه، ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده؛ أن لا يكون له ذكر إلا الموت وما بعده، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا مطلع إلا إليه، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا حوم إلا حوله، ولا انتظار وتربص إلا له، وحقيق بأن يعدّ نفسه من الموتى ويراها في أصحاب القبور، فإن كل ما هو آت قريب، والبعيد ما ليس بآت، فلذلك كان الكيس من عمل لما بعد الموت، ولا يتيسر الاستعداد للشيء إلا عند تجدّد ذكره على القلب، ولا يتجدد ذكره إلا عند التذكر بالإصغاء إلى المذكرات والنظر في المنهيات.



بحث عن بحث