الوقفة السادسة:

أهمية المحاسبة للنفس وضرورتها

دلّ الحديث دلالة صريحة على أن العاقل هو الذي يحاسب نفسه بين وقت وآخر ويعلم أن هذا الوقت سيسأل عنه الإنسان، بل سيسأل عن جميع أموره وأقواله وأعماله في هذه الحياة، وسيحاسب عليها يوم القيامة، وسيجد كل أعماله في صفحات سيقرؤها ويطلع عليها، ومن الخير أن يحاسب نفسه مادام في الدنيا قبل أن يحاسب في الآخرة.

قال تعالى: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49].

وقال تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴿6 فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿7 وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة:6-8].

ويقول سبحانه: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء:47].

ويقول: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].

يقول ابن سعدي رحمه الله في تفسير الآية المذكورة:

أي كاملًا موفرًا مثقال ذرة كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ والخير: اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة صغيرها وكبيرها، كما أن السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله من الأعمال السيئة صغيرها وكبيرها.

ويقول عليه الصلاة والسلام: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه».

إذًا هذه حقيقة واقعة، ألا وهي سؤال الإنسان يوم القيامة عن كل شيء صغيرًا كان أو كبيرًا .. وهذه الحقيقة جرى تقريرها كما سبق في القرآن الكريم في صيغ متعددة وكذا في السنة النبوية.

فإذا كان الأمر كذلك فعلى المسلم أن يحاسب نفسه في الدنيا ليكون الحساب في الآخرة يسيرًا، وهذه هي النتيجة من معرفة حساب الآخرة.

قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴿9 وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9 - 10] أي فاز وربح من أشغل نفسه بالطاعات، وخاب وخسر من شغلها بالمعاصي والآثام.

قال الحسن: معناه قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عز وجل، وقد خاب من دساها؛ أهلكها وأضلها وحملها على المعصية.

﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ أي خابت وخسرت نفس أضلها الله فأفسدها.

ويقول ابن سعدي رحمه الله:

﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ أي طهر نفسه من الذنوب ونقاها من العيوب ورقّاها بطاعة الله، وعلاّها بالعلم النافع والعمل الصالح.

﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ أي أخفى نفسه الكريمة التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها بالتدنس بالرذائل، والدنو من العيوب والاقتراف للذنوب، وترك ما يكملها وينميها واستعمال ما يشينها ويدسيها.

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].

قال ابن كثير رحمه الله:

أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم.

وقال البغوي:

أي لينظر أحدكم أي شيء قدم لنفسه عملًا صالحًا ينجيه أم سيئًا يوبقه.

وقال ابن سعدي رحمه الله كلامًا في معرض تفسيره للآية أراه حقيقة من أنفس ما كتب في كتب التفسير، قال رحمه الله:

يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه، سرًّا وعلانية في جميع الأحوال، وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وشرائعه وحدوده، وينظروا ما لهم وما عليهم، وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة، فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم، واهتموا بالمقام بها، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها، وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقفهم عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم، وإذا علموا أيضًا أن الله خبير بما يعملون لا يخفى عليه أعمالهم، ولا تضيع لديه ولا يهملها أوجب لهم الجد والاجتهاد.

وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرًا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه وإتقانه، ويقايس بين منَن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة.

والحرمان كل الحرمان: أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قومًا نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطًا فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنًا لا يمكنهم تداركه.

والرسول صلى الله عليه وسلم  يقرر هذا المبدأ ويحث عليه .. كما يظهر هذا فيما يرويه شداد بن أوس ا قال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».

فالذكي العاقل من حاسب نفسه وشدّد عليها في الدنيا وأدانها بما عملت؛ لأن الحساب في الدنيا أيسر منه في الآخرة وهي دار العمل، فله أن يتدارك نفسه بالعمل الصالح إن وجد التقصير من نفسه.

وأما العاجز فهو من أرفق مع نفسه وسار معها على ما تهوى وتشتهي ويمنيها برحمة الله ومغفرته، فهذا سيقصر في العمل ولا ريب، ويصعب حسابه في  الآخرة، وقد عمل السلف رضوان الله عليهم بهذا المبدأ العظيم وحثوا عليه ..

يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ا: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.

وقال علي بن أبي طالب ا: ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.

ويقول الحسن البصري: إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته، يستقصرها في كل فعل فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليمضي قدمًا لا يعاتب نفسه.

وهذا شواهده واضحة لا تخفى، فالمؤمن المراقب لله تعالى تجده دائمًا يشعر بالتقصير وهو يقسو على نفسه حتى يقودها إلى طريق الأمان ومستقر الرحمة، ويندم على ما فاته، ويندم على ما قصر من العمل والطاعة كما يندم ويعاتب ويعاقب نفسه على المعصية، فهو إن عمل الطاعة يلوم نفسه ويندم على التقصير وعدم الجد والاستزادة، وإن عمل السيئة عاقب نفسه وعاتبها وندم على ما اقترف من الإثم.

أما الفاجر فهو يسير في هذه الدنيا يتمتع ويلهيه الأمل فيسير قدمًا لا عتاب ولا حساب، فيكون رصيده في نهاية المطاف خاسرًا غير رابح.

حكي أن رجلًا حاسب نفسه؛ فحسب عمره فإذا هو ستون عامًا، ثم حسب أيامها فإذا هي إحدى وعشرون ألف وثلاثمائة يوم، فصاح يا ويلاه، إذا كان لي في كل يوم ذنب فكيف ألقى الله بهذا العدد؟ فخرّ مغشيًّا عليه، فحركوه فإذا هو قد مات.

أيُّ محاسبة هذه! وأي استشعار كان من هذا الرجل! هل جلس أحدنا مع نفسه مثل هذا المجلس.. لماذا يكون منا المحاسبة بالقنطار إن كان لنا عند الآخرين حق من الحقوق .. ألا تكون هذه المحاسبة ذاتها لأنفسنا حتى تؤدي ما عليها في حق الله تعالى؟!

يقول ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقيًّا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه.

ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان إن لم تحاسبه ذهب بمالك.

يقول ابن قدامة رحمه الله:

اعلم أن التاجر كما يستعين بشريكه في التجارة طلبًا للربح، ويشارطه ويحاسبه، كذلك العقل يحتاج إلى مشاركة النفس ويوظف عليها الوظائف ويشرط عليها الشروط ويرشدها في طريق الفلاح، ثم لا يغفل عن مراقبتها فإنه لا يأمن خيانتها وتضييعها رأس المال، ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها، فإن هذه التجارة ربحها الفردوس الأعلى، فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم من تدقيقه بكثير من أرباح الدنيا، فحتم على كل ذي عزم آمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها، فإن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا يعوض لها.

إن هذه النفس بطبيعتها تأبى الانقياد والطاعة، فهي دائمًا عنيدة شاردة كالإبل الشاردة إن لم تُلجمها بلجام قوي تفلتت من عُقُلها ولم تعد تستطيع السيطرة عليها وقيادتها.

كتب عمر لبعض عماله: حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة.

ويقول الحسن: المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.

وقال مالك بن دينار: رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائدًا.

وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء ا: لا ينقد الرجل كل النقد حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد مقتًا.

*   *   *

هؤلاء هم سلف الأمة ونصحاؤها، حاسبوا أنفسهم وحثوا على ذلك، ورغبوا وشجعوا ونبّهوا، ولينظر العاقل إلى أهل الأموال كيف يحاسبون أنفسهم ومن معهم.

ولينظر إلى أهل الأعمال!

ولينظر إلى أصحاب المزارع!

وهكذا .. أليست المحاسبة لليوم العظيم أشد وأهم وأدق؟

فلِم الإهمال والتقصير والتكاسل والتخاذل؟!



بحث عن بحث