الوقفة الثانية عشرة

كيف أطيل عمري

من ثمرة النظر في هذا الحديث أن العاقل يعمل لما بعد الموت، فيعمل بما يطيل عمره، وذلك بأن طول العمر مما يتمناه كل إنسان، منهم من يتمناه لقضاء شهواته، ومنهم من يطلبه لنيل أمانيه التي يرى أنه قد فاتته، وقد صوّر هذا النبي صلى الله عليه وسلم  في حديث أخرجه الإمام البخاري رحمه الله، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ».

محبة طول العمر في نفسها لا تمدح ولا تذم، وإنما تمدح أو تذم على نية هذا الشخص، وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم  أن يرزق الحياة عدة مرات ليقاتل في سبيل الله ويقتل ثم يُحيا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ» فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُهُنَّ ثَلاثًا أَشْهَدُ بِالله.

كما أنَّ محبة طول الحياة تذم إذا كانت لأمور تافهة ودنيئة، وقد ذم الله سبحانه محبة اليهود لطول الحياة فقال: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 96].

وإطالة العمر قد تكون حسيا وقد تكون معنويا، وإطالة العمر حسيا يمكن بما يلي من الأعمال:

1- صلة الرحم، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ» قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ يَعْنِي بِهِ الزِّيَادَةَ فِي الْعُمُرِ .

ومعنى الزيادة في العمر قد يكون حسيا وقد يكون معنويا، قال النووي في شرح حديث أنس ا: قَوْله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَط لَهُ فِي رِزْقه وَيُنْسَأ لَهُ فِي أَثَره فَلْيَصِلْ رَحِمه» «يُنْسَأ» مَهْمُوز أَيْ يُؤَخَّر. وَ«الأَثَر» الْأَجَل, لِأَنَّهُ تَابِع لِلْحَيَاةِ فِي أَثَرهَا. وَ«بَسْط الرِّزْق» تَوْسِيعه وَكَثْرَته, وَقِيلَ: الْبَرَكَة فِيهِ. وَأَمَّا التَّأْخِير فِي الْأَجَل فَفِيهِ سُؤَال مَشْهُور, وَهُوَ أَنَّ الآجَال وَالأَرْزَاق مُقَدَّرَة لا تَزِيد وَلا تَنْقُص, ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34] وَأَجَابَ الْعُلَمَاء بِأَجْوِبَةٍ؛ الصَّحِيح مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة بِالْبَرَكَةِ فِي عُمْره, وَالتَّوْفِيق لِلطَّاعَاتِ, وَعِمَارَة أَوْقَاته بِمَا يَنْفَعهُ فِي الآخِرَة, وَصِيَانَتهَا عَنْ الضَّيَاع فِي غَيْر ذَلِكَ. وَالثَّانِي أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَظْهَر لِلْمَلائِكَةِ وَفِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ, وَنَحْو ذَلِكَ, فَيَظْهَر لَهُمْ فِي اللَّوْح أَنَّ عُمْره سِتُّونَ سَنَة إِلا أَنْ يَصِل رَحِمه فَإِنْ وَصَلَهَا زِيدَ لَهُ أَرْبَعُونَ, وَقَدْ عَلِمَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى مَا سَيَقَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ, وَهُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39] فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْم اللَّه تَعَالَى, وَمَا سَبَقَ بِهِ قَدَره وَلا زِيَادَة بَلْ هِيَ مُسْتَحِيلَة, وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ظَهَرَ لِلْمَخْلُوقِينَ تُتَصَوَّر الزِّيَادَة, وَهُوَ مُرَاد الْحَدِيث. وَالثَّالِث أَنَّ الْمُرَاد بَقَاء ذِكْره الْجَمِيل بَعْده, فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ. حَكَاهُ الْقَاضِي, وَهُوَ ضَعِيف أَوْ بَاطِل وَاَللَّه أَعْلَم.

فَتَأْخِير الأَجَل بِالصِّلَةِ إِمَّا بِمَعْنَى حُصُول الْبَرَكَة وَالتَّوْفِيق فِي الْعُمْر وَعَدَم ضَيَاع الْعُمْر, فَكَأَنَّهُ زَادَ, أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُ سَبَب لِبَقَاءِ ذِكْره الْجَمِيل بَعْده، وَلا مَانِع أَنَّهَا سَبَب لِزِيَادَةِ الْعُمْر كَسَائِرِ أَسْبَاب الْعَالَم، فَمَنْ أَرَادَ اللَّه زِيَادَة عُمْره وَفَّقَهُ بِصِلَةِ الأَرْحَام وَالزِّيَادَة إِنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ الظَّاهِر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْق، وَأَمَّا فِي عِلْم اللَّه تَعَالَى فَلا زِيَادَة وَلا نُقْصَان وَهُوَ وَجْه الْجَمْع بين هذا الحديث و بَيْن قَوْله صلى الله عليه وسلم : «جَفَّ الْقَلَم على علم الله» . أو «جف القلم بما أنت لاقٍ».



بحث عن بحث