المؤمن بين الخوف والرجاء

الخطبة الأولى

الحمد لله الغفور الودود، فعّال لما يريد، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى وارجوا رحمته وخافوا عقابه تكونوا من المفلحين في الدنيا والفائزين في الأخرى.

أيها المسلمون: إن العبد في مسيرته في هذه الحياة يسير كما يسير الطائر بجناحيه كما شبهه الإمام ابن القيم رحمه الله، فهو يسير تارة بالجناح الأيمن، وتارة بالأيسر مثمثلا قوله عليه الصلاة والسلام: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد».

الجناح الأول هو جناح الخوف من الله جل وعلا، فالعبد يعمل ويخشى أن لا يتقبل عمله، يتوب ويخشى أن لا تقبل توبته، يعصي الله عز وجل ويخشى أن يعاقب على هذه المعصية، فالعبد مستحق لها حال معصيته لله جل وعلا، ولذلك ندب الله سبحانه إلى الخوف منه في جميع الأحوال.

أيها المسلمون: والجناح الثاني جناح رجاء رحمة الله سبحانه، فالعبد أُمر في هذه الحياة وكُلف بأن يعمل من الصالحات فرضها ونفلها، فإذا عمل عليه أن يرجو القبول من الله جل وعلا ويحسن الظن بربه سبحانه، وإذا وقع في معصية من المعاصي فتاب وأناب وأقلع من هذه المعصية، عليه أن يتوب ويرجو قبول توبته من الله سبحانه، قال تعالى: ) قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم([ الزمر: 53].

أيها المسلمون: الرجاء لا يكون مقبولا إلا إذا صاحبه العمل، ولذلك يقول ربنا جل وعلا ) فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا( [الكهف: 110]، أما ما يفعله كثير من الناس بأن يعصي الله ويقول: إن الله غفور رحيم، يعصي الله ويتناسى من عصى وهو الله سبحانه وتعالى، فهذا ليس من الرجاء في شيء إنما هو من التمني والأماني الذي يتمناها الإنسان وهذا حال كثيرين وللأسف الشديد؛ لذلك عباد الله إذا كنا نريد القبول، وإذا كنا نريد رحمة الله، وإذا كنا نريد التوفيق في الدنيا والفوز في الآخرة فلابد من العمل.

أيها المسلمون: رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كما أخبره المولى جل وعلا، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين، وأفضل من وطئت قدماه الأرض، وأول من يدخل الجنة وهو الشافع المشفّع في المحشر ومع ذلك كان يعمل ويجد في العمل ويقوم الليل حتى تورمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: « أفلا أكون عبدا شكورا».

هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل ويرجو، أما من يتمادى في المعاصي فيقول: "هذه صغيرة، وتلك يعملها الناس كلهم، وهذا لم لا يمنع"، وهكذا مما يسمع من كلام كثيرين من الناس حينئذ جمع معاصي إلى معاصي حتى اسود قلبه من كثرة المعاصي ومع ذلك يقول: إن الله غفور رحيم.

نعم إن الله غفور رحيم لكن هذه وسيلة اتخذت مطية لعمل المعاصي والسيئات فإذا كنت تعتقد ذلك حقا بأن الله غفور رحيم فاجعل معها الجناح الآخر وهو أن الله شديد العقاب بمعنى أنك كما تعمل المعصية وترجو أن يغفرها لك الله جل وعلا فتب منها واعمل الطاعة وارجو أن يتقبلها ربك سبحانه وتعالى، وقد جاء في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: « أنا عند ظن عبدي بي» فإذا ظن العبد أن الله غفور رحيم وهو قد عمل ولجأ إلى الله ودعا الله بأن يغفر ذنبه وأن يتقبله فالله يغفر ذنبه ويتقبله سبحانه فهو غفور رحيم وهو ودود وهو لطيف وهو يشفي المرضى، وهو الغني يقدر الأرزاق وهو الذي كتب الأرزاق وقدرها لكل إنسان قبل أن يولد في هذه الدنيا وهو في بطن أمه وهو الرزاق ذو القوة المتين سبحانه، وهو المخلّص وهو فارج الهم وكاشف الغم، يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، يعلم السر وأخفى هذا هو الرجاء، أما إذا ظن العبد بربه ظن السوء فحينئذ لا يحصل له ما يرجو من القبول والرحمة، وهذا حال كثيرين أيضًا من الناس يظنون بربهم ظن السوء بأن الله لا يوفقهم في الدنيا، وأنهم ليسوا أهلا للغنى، ولا أهلا للصحة، ويتمادون في هذا الظن والعياذ بالله.

أيها المسلمون: ما دام الإنسان يتقلب في هذه الحياة فعليه أن يعمل بهذين الجناحين جناح الرجاء وجناح الخوف، أما إذا اشتد به المرض أو ضاقت به الحال، أو أشرف على الموت فعليه أن يغلب جانب الرجاء وينظر إلى رحمة الله، فالله أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، أرأف بالعبد من الأم بجنينها وبطفلها، فهو سبحانه رؤوف رحيم غلبت رحمته وسبقت رحمته غضبه سبحانه وتعالى، كما أنه إذا عمل العبد المعصية أو قصر في الطاعة عليه أن يغلب جانب الخوف من الله جل وعلا؛ لأن الله يغار على حرماته سبحانه، وما حد الحدود وفرض الفرائض وأمر بالأوامر ونهى عن النواهي إلا أنه سبحانه يغار، هكذا يسير المؤمن في هذه الحياة.

والإنسان جُبل على الخطأ لكنه إذا أخطأ ناب وتاب على ربه كما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: » إن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ».

اللهم أعنا على أنفسنا ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين ولا أقل من ذلك.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة وما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

!  !!

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا جل وعلا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: ما بال أقوام يعملون بالمعاصي ويتقلبون فيها ليلا ونهارا وبخاصة في مثل هذه الأوقات التي كثرت وتنوعت هذه المعاصي سواء كانت معاصي الجوارح أو معاصي القلوب، أو معاصي الأعين أو معاصي الآذان أو معاصي الأيدي أو معاصي الأموال أو معاصي القلوب والعياذ بالله.

كثرت وتنوعت في هذا الوقت ولهى الناس، وتكاثر الناس في اللهو وتسابقوا إليها، وقصروا في جنب الله وفي طاعته، وعندما يحدثون أو يوعظون حينئذ تشتد قلوبهم وأحوالهم ويقولون ويسلون أنفسهم بأن مغفرة الله ورحمته قريبة، نعم إن رحمة الله قريبة لكن هي قريبة ممن؟ ) إن رحمة الله قريب من المحسنين([الأعراف: 56] ورحمة الله قريبة من المتقين، ومن المؤمنين، ومن البارين، ومن المحسنين، ومن العاملين بطاعة الله جل وعلا لكن أيضا عقوبة الله قريبة من العصاة ومن الفسقة، وعندما تنتهك حرمات الله جل وعلا.

ما بالكم أيها الشباب تتقلبون بين معاصي النت ومعاصي الفضائيات، ومعاصي الأوراق وغيرها.

وما بالكم أيها التجار وأيها العاملون تتقلبون بين معاصي الأموال في مصادرها وفي مواردها وفي إنفاقها، تتقلبون بين هذه المعاصي من الكذب وقول الزور والربا وأكل أموال الناس بالباطل والتدليس والغش في البيع والشراء.

وما بالكم أيها الأجراء وأيها العمال تتقلبون في معاصي التقصير في هذه الأعمال.

عباد الله: هناك معاصي أخرى كإهمال الأسرة والبيت من الوالد أو الوالدة أو رب البيت أو ربة البيت إهمال أو تغافل أو غفلة أو نسيان أو غير ذلك من المعاصي التي تجدها متكدسة في البيوت سواء كانت فيما يظنونها صغيرة أو يظنون أن الناس كلهم يعملون هكذا أو يظنون أن الناس تساهلوا فيها، ومن ذلك الذين تساهلوا في ركوب المرأة مع السائق بدون محرم مثلا وبخلوة، وكذلك سفرها بدون محرم وكذلك لهوها وإبعادها عن البيت أو التساهل في أمر الحجاب سواء كان تغطية الوجه أو إظهار شيء من الجسم أو من المفاتن والتساهل في كثير من الألبسة وكذلكم السهر الشديد على النت وغيره وكثير منه معصية والعياذ بالله.

أيها المسلمون: إن الأمر جد خطير حينئذ ركزوا على جانب الخوف من الله جل وعلا، لكنكم حال التوبة وحال العمل الصالح ارجو رحمة الله سبحانه وتعالى.

عباد الله: اعلموا أن الله مطلع على الصغيرة والكبيرة، يعلم الجهر وما يخفى سبحانه وتعالى، وقد أخبرنا سبحانه أن على العبد ملكين واحد يكتب أمور الخير والآخر يكتب أمور الشر والعياذ بالله، وسيجد الإنسان في صفحته ما لم يتخيله من الدقة ) فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره([الزلزلة: 7- 8]، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشد إلى هذا حتى في الكلمات الصغيرة فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم».

فاتقوا الله عباد الله واسعدوا مع الله في عملكم بجانب الرجاء والخوف كما هما كجناحي الطائر ورأس ذلك محبة الله سبحانه وتعالى ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله([آل عمران: 31]. أحبوا ربكم فاتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحينئذ تعملون بهذين الجناحين.

أسأل الله جل وعلا أن يعيننا على ذلك، ثم صلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم الله جل وعلا في محكم كتابه العزيز حيث قال: ) إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما([الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

!!!



بحث عن بحث