وقفات مع وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس (2).

الخطبة الأولى

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى في سركم وعلانيتكم، وفي جميع أحوالكم، وفي إقامتكم وفي سفركم.

أيها المسلمون: في الجمعة الماضية وقفنا مع معلم من المعالم العظيمة التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته الجامعة لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عندما قال وهو رديف له: « يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف». وفي رواية: « تعرف إليه في الرخاء، يعرفك في الشدة ... واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا».

وقفنا عباد الله مع المعلم الأول الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لبناء منهجية الإنسان في تعامله مع ربه في هذه الحياة، وهو «احفظ الله يحفظك » بأن يحفظ أوامره بفعلها، وأن يحفظ نواهيه بتركها واجتنابها، وأن يقف عند حدود الله.

أما المعلم الآخر فهو في قوله عليه الصلاة والسلام: « تعرف إليه في الرخاء، يعرفك في الشدة ». الحياة عباد الله رخاء وشدة، عسر ويسر، ليست على حال واحدة، ولا تسير على منوال واحد، وإنما تتقلب هذه الحياة، مرض وصحة، فقر وغنى، قوة وضعف، صغر وكبر، وهكذا عباد الله تتقلب الحال من حال إلى حال، والمسلم في جميع هذه الأحوال يجب أن يكون مع ربه جل وعلا، ولذلك ينبه النبي صلى الله عليه وسلم على الغالب من حياة الناس في حال الرخاء وهو البطر والبعد عن الله سبحانه وتعالى ونسيان أوامره جل وعلا، بل قد يرتكب نواهي الله سبحانه وتعالى، فالرسول صلى الله عليه وسلم ينبه إلى أن يكون ارتباط المسلم دائما بالله جل وعلا، فإذا كنت في حال الرخاء في حال الصحة والقوة والنشاط والغنى والجاه والرئاسة مع الله سبحانه وتعالى، لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، فلا يبطرك المال، ولا تلهيك مشاغل الحياة، ولا يغرك جاه الدنيا، ولا تتكبر على خلق الله، فمعرفتك لله في رخائك تجعل ربك يعرفك في حال الشدة حينما يكون لا حيلة لك ولا قوة ولا أي جند من جند الله ينفعك، حينئذ لا ينفعك إلا ربك جل وعلا.

تعرف على الله بمعنى المعرفة الخاصة الدقيقة وإلا فالحيوانات تعرف الله، والكفار يعرفون الله، وإنما المقصود بالمعرفة هنا أن تتعرف على أوامره وأحكامه وحدوده فتقف عندها على منهاج الله جل وعلا، فلا تتعامل حال الغنى بمال محرم، ولا تصرفه في محرم، وفي حال صحتك لا تلهو ولا تنشغل عن أوامر الله جل وعلا، وفي حال رئاستك ووجاهتك لا تستخدمها في التكبر والطغيان على عباد الله جل وعلا، وهكذا تكون مع الله جل وعلا، تلكم عباد الله هي المعرفة الخاصة في الوقوف مع حدود الله جل وعلا، وحينها عباد الله يعرفك الله، ومعرفة الله لعبده معرفتان: معرفة عامة، فالله جل وعلا يحصي على جميع خلقه، وهو يعلم حالهم أينما كانوا وحيثما ارتحلوا، يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، يعلم السر وأخفى، يعلم الجهر والعلن، كما يعلم السر والخواطر والنجوى، فالله سبحانه وتعالى معك، ويحصي عليك كل شيء وتلكم المعية العامة من الله جل وعلا لعباده، والمقصود هنا المعية الخاصة بأن يكون سبحانه ناصرك ومؤيدك ومعينك ومعك، فمن كان مع الله كان الله معه، فعن أبي بكر رضي الله عنه، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا، قال: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما». هنا يكون الحفظ والرعاية والنصرة والتأييد لمن كان مع الله سبحانه وتعالى.

كن مع الله في دنياك يكن معك عند موتك وما بعد موتك، كن مع الله حال قوتك يكن معك حال ضعفك، كن مع الله في حال صحتك يكن معك في حال مرضك، كن مع الله عندما تكون مع الناس يكن معك الله عندما تكون لوحدك، كن مع الله في جميع أحوالك في الدنيا يكن معك الله في آخرتك فيظلك في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

أما المعلم الآخر عباد الله يحدده الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة الأخرى « إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» أنت ضعيف، أنت مسكين، أنت مريض، أنت تحتاج إلى من يعينك وتسأل الناس حال فقرك وحال طلبك لأمر من أمور الدنيا، لا يا عبد الله عليك أن تسأل الله جل وعلا، يقول الله جل وعلا: ) وقال ربكم ادعوني أستجب لكم( [غافر: 60]، ) وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان( [البقرة: 186].

هكذا عباد الله لمن يعرف ربه جل وعلا، فيسأله ويطلبه بما شاء من حاجات الدنيا وحاجات الآخرة، أخبر عليه الصلاة والسلام بأن لك أن تطلب من ربك حتى أصغر شيء وهو شسع نعلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام كما تطلبه جل وعلا أعلى ما يمكن أن تتصوره وهو رضاه سبحانه وتعالى عنك، والفردوس الأعلى من الجنة، وأن تتمتع برؤية وجهه الكريم عندما تحجب هذه الرؤية عن الكفار والمنافقين.

أيها المسلمون: معلم عظيم آخر «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»، فأنت محتاج إلى ربك مهما تكن قوتك، ومهما تكن رئاستك، ومهما تكن أبطل الأبطال، ومهما يكن معك من المال فأنت ضعيف لا تساوي شيئا أمام قوة الباري جل وعلا؛ ولذلك يلقنك ربك جل وعلا هذا المعلم في كل حال، وفي أهم الأحوال عندما تقف بين يديه جل وعلا فتقرأ في كل ركعة ) إياك نعبد وإياك نستعين([ الفاتحة: 5].

وحينها يأتي المعلم الكبير وهو أنك في هذه الدنيا مهما تكن لا تفر من أقدار الله جل وعلا، مهما بلغتك حيلتك ومستشاروك، ومهما بلغ ما عندك من التخطيط والإرادة لأن تتحيل على عباد الله جل وعلا، فأنت بين يدي الله جل وعلا وقد أحصى عليك كل شيء وكتب عليك كل شيء، قدر المقادير، وعلمها جل وعلا وكتبها سبحانه وأوجدها في هذه الحياة على كل صغير وكبير، فالأمور كلها مقدرة من الله جل وعلا، وحينها يأتي المعلم « واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف »، حينها عباد الله يرضى المسلم بما قدره الله جل وعلا عندما يعلم أن كل شيء مقدر، وجودك ورزقك وأحوالك ووظائفك كلها مقدرة عند الله جل وعلا حتى الكلمات الصغيرة، وحتى السر والنجوى مقدر عند الله سبحانه وتعالى، فما عليك إلا أن تفعل الأسباب وترتبط بالله سبحانه وتعالى، وهذا الإيمان بما قدره الله جل وعلا يضفي على العبد الرضا والطمأنينة والسكينة؛ لأنه مع الله سبحانه وتعالى فلا يلجأ إلى الحيل ولا إلى التحايل على عباد الله سبحانه ولا يلجأ إلى المحرمات، وحينها يتواضع لخلق الله، وحينها يصبر على ما قدر الله، ويرضى بما قدر الله، وأعلى من ذلك كله أن يشكر الله جل وعلا على جميع أحواله، فالشكر هو قمة التعامل مع الله سبحانه وتعالى عندما تأتي هذه المقادير، والواجب على المسلم الصبر ثم الرضا وقد سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم « وأسألك الرضا بعد القضاء»، أما الشكر فهو القمة ولا يصله إلا القمم الذين يجعلون المحن والإحن منحًا من الله سبحانه وتعالى، فلذلك عباد الله علينا أن نتذكر هذه المعالم التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنعيش في هذه الحياة مطمئنين آمنين مسرورين ساكنين، حينها لا نخشى عدوا من الأعداء، ولا نخشى شيطانًا من الشياطين ولا ساحرا من السحرة ولا مرضًا من الأمراض ونرضى بما يقدره الله سبحانه وتعالى، ونقنع بما رزقنا به سبحانه وتعالى ونعامل الآخرين المعاملة الحسنة لأنهم خلق من خلق الله، وعباد من عباد الله، أمرنا جل وعلا أن يكون هذا من مقتضى عملنا بهذه المعالم.

أسأل الله جل وعلا أن يعيننا على أنفسنا لاقتفاء هذه المعالم التي جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية الجامعة والكلمات القليلة بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.

نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة وبما فيهما من الهدي والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

!  !!

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: في هذه الوصية الجامعة العظيمة الكبيرة، قليلة الألفاظ كبيرة المعاني تسلية للمصابين بالفقر والمرض وغيرها من المصائب، إن لم يرتبط هؤلاء بالله فبمن يرتبطون؟، إن لم يتعلق هؤلاء بالله جل وعلا فبم يتعلقون؟.

أيها المريض: اسأل الله جل وعلا، واعلم قبل ذلك أن ما أصابك إنما هو اختبار وابتلاء من الله جل وعلا.

أيها الفقير، أيها المبتلى، أيها الإنسان أينما كنت ومهما كانت حالك: تذكر هذه المعالم العظيمة لتنتقل من حياة الشقاء وكثرة التفكير واستيلاء الوساوس عليك والشكوك وغير ذلك من سائر الأمراض إلى أن ترتقي إلى مستوى السكينة والطمأنينة والهدوء والتعلق بالله فتكون حياتك ويومك وليلتك كلها لله سبحانه وتعالى، أجرا وثوابا وتقدما عند الله سبحانه وتعالى، وحينها يكن الله معك كما كان الرعيل الأول اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبصحابته الكرام الذين كانوا فقراء مطاردين أمراض وأسقام، يقضي القوي على الضعيف وهكذا، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، حينها ارتقوا رقياً كبيرا فعمروا الأرض ونشروا العدل والرحمة والإحسان في جميع ربوع الدنيا وعلى مدار التاريخ، وهكذا عباد الله على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، تتنافس في هذه القضايا الكبرى، وفي هذه الأعمال الجليلة، فارتبط بالله سبحانه وتعالى في جميع أحوالك، وإذا ندبك شيء وإذا استولى على ذهنك شيء فخاطب ربك جل وعلا واسأله حينها ستجد الإجابة إما معجلة لك في الدنيا وإما مؤخرة لك في الآخرة، وإما أن يرد عليك من الشر ما هو أكثر منها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فكونوا مع الله يكن الله معكم في حال حلكم وترحالكم وإقامتكم وسفركم وليلكم ونهاركم.

واعلموا أن الله يحصي على العبد كل شيء وسيجد صفحته مكتوبًا فيها كل شيء )فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره([الزلزلة: 7- 8 ].

أن يتقبأن يتقبل من الجميع

 ثم صلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم الله جل وعلا في محكم كتابه العزيز حيث قال: ) إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا([ الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم وسار على منهاجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

!!!



بحث عن بحث