r   ففي تربية المعلم:

لا شك أن التعليم من أعظم المهمات، وأجلّ الوظائف، وإن من أهم ما يستطيع أن يؤدي به المعلم وظيفته أن يحدد هدفه من تعليمه، ولنا أن نتصور معلِّمَيْن:

أحدهما: يصب مادته العلمية التي تعلمها وقرأها وتنتهي بعد ذلك علاقته بتلاميذه، فهذا هدفه أن يصب المادة العلمية وقد أدّاها بغض النظر عن استيعابهم وتأثرهم بهذه المادة، وظهورها على سلوكهم، بل ولا تصورها في واقع حياتهم.

وآخر قبل أن يبدأ بمادته العلمية يتعرف على نوعية طلابه، ومداركهم، واستعدادهم، وبعد دخوله في شرح هذه المادة يمزجها بما تحمله هذه المادة من تقويم للسلوك والأخلاق، مع معالجة ما في واقع التلاميذ من أخطاء، وتصحيح ما يحتاج إلى تصحيح من المفاهيم، وكيفية الاستفادة من هذه المادة، وبعد شرحها يتأكد من استيعابهم واستفادتهم، وهكذا، فهذه القاعدة وضعت أمامه الهدف الكبير، وهو إصلاح هؤلاء التلاميذ مع تعليمهم فمزج بين التربية والتعليم.

تصوّر – أخي القارئ – مردود هذين المعلِّمَيْن على الأبناء ومن ثم على المجتمع.

من هنا نقول: إن المعلّم الواعي لمسؤوليته، المعظم لأمانته، الذي يريد الثمار واضحة في الدنيا، والأجر العظيم في الآخرة، هو الذي يحدد هدفه – كما هو واضح في حالة المعلّم الثاني، فيصوغ أسلوب تعليمه ومعايشته لطلابه في ما يقتضيه هذا الهدف.

المثال الثالث: الأب مع أبنائه، الأبوة سنّة كونية، كلٌّ يحنو إليها، ويسعى لطلبها والبحث عنها، ولكن هذه الأبوة تحمل في جنباتها حقوقًا عظيمة على هذا الأب، ولأداء هذه الحقوق، ونيل ثمراتها أن يعي الأب هدفه العظيم من وجود هؤلاء الأبناء والبنات، فإذا حدّد هدفه منهم وهو إصلاحهم وتخريجهم أبناء نافعين لأنفسهم ووالديهم ومجتمعهم وأمتهم، محققين عبودية الله تعالى في الأرض:﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا ِيَعْبُدُونِ  ﴾، كانوا حينئذٍ امتدادًا له حتى بعد مماته، وحسنة جارية له وهو في قبره، فضلاً عن نفعه في حياته. أما إذا كان الآخر همه وهدفه أكلهم وشربهم ولبسهم وشؤون دنياهم فهذا قصر هدفه ونظر إلى العاجل قبل الآجل، فربما كانوا فتنة له في حياته وبعد مماته.

r  وبعد هذه الأمثلة نتطرق إلى بعض النقاط المهمة بخصوص تحديد الهدف:

الأولى: ضرورة وجود منهج واضح ومختصر للوالدين داخل الأسرة يتبين من خلاله الهدف الذي يسعيان إليه، بحيث لا يحدث تصادم بينهما أثناء القيام بعملية التربية، فلا يفرض كل منهما جميع آرائه وأفكاره على الأبناء لتحديد مسارهم، لوجود بعض الاختلافات والتباينات بينهما في المسائل المختلفة، والأفضل في مثل الحالة أن يتفقا على العناصر المشتركة بينهما لبناء المنهجية الموحدة للإشراف على الأبناء والبنات وتربيتهم نحو الهدف المنشود والواضح.

لأن فقدان المنهجية الموحدة بين الوالدين يؤدي في كثير من الأحيان إلى غياب الهدف ووضوحه، وبالتالي الإخفاق والفشل نحو أي نجاح أو إبداع بالنسبة للأبناء، والواقع يشهد على هذه الظاهرة التي تتكرر في المجتمع ويكون الضحية فيها الأبناء والبنات وضياعهم نتيجة التشتت والتخاصم الذي يحدث بين الوالدين.

ومن معالم هذه المنهجية:

- وضوح الهدف بين الوالدين.

- التكامل بينهما، فلا يشدّان جميعًا أو يتساهلان جميعًا.

- عدم تغييب أي معلومة عن الآخر بشأن الأولاد.

- إشعار الأولاد أن بين الوالدين انسجامًا كبيرًا.

- التأكيد جميعًا على المسلمات في الأوامر والنواهي، كالأمر بالصلاة، وحسن الألفاظ، والبرّ، والنهي عن الأخلاق المشينة وغيرها.

- الدعاء للأولاد وليس عليهم، والدعاء بالإعانة على التربية.

الثانية: التعامل الصحيح من قبل الوالدين مع القضايا المعاصرة الجديدة التي تمس واقع الشباب والبنات، كالانترنت والفضائيات، والجوالات، وغيرها. فكل هذه التقنيات عبارة عن ساحات مؤثرة على حياة الأبناء والبنات، ولا بد من تحديد المنهج الصحيح الذي يستوعب هذه المستجدات والتغيرات الطارئة على نفوس هؤلاء الأبناء كل ذلك وفق قواعد وضوابط شرعية محكمة، من غير إفراط ولا تفريط.

فمن الخطأ – مثلاً – حرمان الأبناء والبنات من التعامل أو الاحتكاك مع هذه التقنيات كليًا تحت مسمّى الحرمة أو الفساد، لأننا نستطيع استخدامها والتعامل معها بصورة إيجابية، حين يكون هناك التوجيه الصحيح والمعتدل.

فضلاً عن أن المنع الكلّي له آثار سلبية، حيث يجعل الأبناء يلجئون إلى وسائل أخرى للوصول إلى هذه التقنيات من دون علم الوالدين، عن طريق الأصدقاء والأصحاب، ومن ثم استخدامها بشكل سيء وفاسد، يصعب بعدها التحكم في توجيههم وإصلاحهم.

الثالثة: أن يحدد الداعية أو المربّي هدفه، من خلال الخطوات الآتية:

1 – أن يضع في الحسبان مدى مشروعية هذا الهدف، من حيث الحلال والحرام.

2 – تصنيف الأهداف من حيث الأهمية، فيحدد الأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة، ويتعامل مع كل صنف حسب الإمكانات مع تحديد العامل الزمني للوصول إليها.

3 – تحديد الآثار المترتبة على كل هدف، والمنافع التي يمكن أن تُجنى من ورائها على النفس والمجتمع والأمة.

4 – تحديد الوسائل المستخدمة للوصول إلى الأهداف، ويجب أن تكون مشروعة، لأن الغاية لا تبرر الوسيلة.

وهذا يعني أن الداعية إذا حدّد هدفه المشروع، وأخذ بالوسائل والأسباب المشروعة فإنه يصل إلى ما يرنو إليه من الأهداف والغايات.

¡  ¡  ¡

وقد صاغ النبي صلى الله عليه وسلم حياته كلها لتحقيق الهدف الأكبر من الرسالة، فسخّر جميع إمكاناته وأوقاته للوصول إلى تحقيق هذا الهدف وهو «البلاغ»، وقد وصل إلى ذلك كما جاء في خطبته في حجة الوداع: اللهم هل بلغت، قالوا: نعم. قال: اللهم فاشهد.

ولذا نجد في سيرته عليه الصلاة والسلام أنه:

-    كان عليه الصلاة والسلام يبدأ بتربية نفسه قبل الآخرين، فيقوم الليل ويتعبّد الله حتى تتورم قدماه، ثم يحثّ أهله وصحابته على قيام الليل لعظيم فضله وشأنه.

-    كان عليه الصلاة والسلام مثلاً رائعًا في الخُلق والسلوك، مع أهل بيته وصحابته رضوان الله عليهم، حتى قال عنه الله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾.

-    كان عليه الصلاة والسلام يتلقى الوحي ويطبق ما يأمره الله به قبل الصحابة، حتى يكون قدوة في التطبيق العملي.

-    كان عليه الصلاة والسلام يحافظ على الوقت ويستثمره في طاعة الله والدعوة إلى الإسلام، كما كان يفعل في مواسم الحج حين تتوافد القبائل والوفود إلى مكة.

-    كان عليه الصلاة والسلام يخطط من أجل الحفاظ على الدعوة في بدايتها، حين بدأت بالسرّية، ثم أُعلنت حين صار لها أتباع ومناصرون.

-    كان عليه الصلاة والسلام يخطط لمستقبل هذا الدين، فأمر بعض صحابته بالهجرة إلى الحبشة من أجل الحفاظ عليهم وعلى الدعوة، ومن أجل نشر الإسلام خارج الجزيرة العربية، وقد تحقق ذلك لاحقًا.

-    كان عليه الصلاة والسلام يأخذ بمبدأ الشورى، فيستشير الصحابة  ويأخذ بآرائهم في القضايا المختلفة، كما حدث في غزوة بدر، وهذا الأمر يزيد من إمكانية النجاح، ويقلل من نسبة الخسارة والفشل.

-    كان عليه الصلاة والسلام يجمع أهله وأقرباءه وعشيرته ويبلغهم بالإسلام وتعاليمه بين الفترة والأخرى، ويحذرهم أنه لا يُغْني عنهم من الله شيئًا، كما قال لابنته فاطمة ك: «يا بني عبد شمس، يا بني كعب بن لؤي: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبدالمطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار. فإني لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها».

-    كان النبي صلى الله عليه وسلم يجالس المشركين واليهود ويحاورهم في قضايا التوحيد والوحي والرسالة، بدون كلل أو ضجر، بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج خارج مكة لتحقيق هدفه والوصول إلى غايته في نشر الدعوة، مثل خروجه إلى الطائف ودعوة أهلها إلى الإسلام، رغم أنهم أساؤوا المقابلة معه عليه الصلاة والسلام، حتى أدميت قدماه.

إن مثل هذه المعالم الحيوية والخطوات العملية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها كثيرة، كان الهدف منها هو نشر الإسلام وإيصاله إلى الناس، وقد حقّق الله تعالى هذا الهدف لاحقًا، فقد وصل الإسلام إلى أصقاع الأرض في فترة زمنية قياسية، ودانت للخلافة الإسلامية الإمبراطورية الفارسية والرومانية، واستمر هذا الامتداد للإسلام حتى بلغ أقصاه في هذا العصر، حيث لم تبق بلاد في العالم إلا ويقطنها المسلمون وفيها المساجد والمراكز الإسلامية والأنشطة الدعوية. 

¡  ¡  ¡

والخلاصة: وبناء على ذلك نلخص هذه القاعدة بما يلي:

أن على المربي في مسيرته التربوية مع أهله وأولاده، أو مع تلاميذه، أو مع من تحت يده، أو على مستوى المؤسسات أو المجتمع بعامة أن يحدد الهدف في هذه المسيرة، سواء كانت الأهداف القريبة مثل: تربية أبنائه على خُلق معين، أو تعليم طلابه فكرة معينة، أو تدريبهم على تطبيقات في مهنة أو حرفة، أو تحفيظهم شيئًا من القرآن الكريم أو السنة النبوية في زمن معين، ثم ما بعده، وهكذا.

وإن لم يستطع المربي صياغة هذا الأمر المهم عليه أن يستعين بأهل الخبرة، أو القراءة في كتب التخصص في هذا الشأن.

إن بناء الهدف هو أولى الخطوات السليمة في التربية، فلنبدأ بعزم وتصميم.



بحث عن بحث