السمة الثانية: الكمال:

والمقصود به، أن هذا المنهج الفريد لم ينقص شيئًا من حاجات الفرد، والأسرة، والمجتمع، والأمة، بل جاء النص صريحًا في ذلك: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .

وقد تمثل هذه المنهجية القدوة عليه الصلاة والسلام، فكان الصورة الحية التي يُرى فيها هذا الكمال، بالنسبة لحاجات الفرد من عقلية وروحية وجسمية  التي سبق الحديث عنها، وكذلك الأسرة، فكان نعم الزوج ونعم الأب، ونعم الموجّه لأسرته وأبنائه وبناته وأحفاده.

1 - ففي الجانب الأبوي يلاعب الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فيدلع لسانه للحسن، ويحمله وهو يصلي، وينهاه عن أكل الصدقة ويقول عليه الصلاة والسلام: «لا تحل لآل محمد»، ويوصي ابن عباس رضي الله عنه عند كان رديفًا له وهو راكب على حمار قائلاً: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك....»، فنجده يأمر وينهى ويوصي ويحث ويلاعب ويداعب عليه الصلاة والسلام، فلم يكن تاركًا الحبل على الغارب، ولا غليظًا أو جافًا، ولا شديدًا معنفًا، بل كان حكيمًا يضع الشيء في موضعه.

2 - وفي جانب الزوجية فيكفي قوله عليه الصلاة والسلام: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»، والخيرية هنا مطلقة، فيدخل فيها: العشرة الطيبة، والتعامل الحسن، والتوجيه والتربية، والتأديب والتعليم، وغيرها، فيسعى عليه الصلاة والسلام لتحقيقها وترجمتها عمليًا.

3 - أما كمال منهجه عليه الصلاة والسلام التربوي في المجتمع والأمة فيتبين من خلال بعض الأمثلة من حياته صلى الله عليه وسلم:

ففي التعليم والتربية والتوجيه، فقد رسم عليه الصلاة والسلام قمة التعامل، فذاك الأعرابي الذي دخل المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام في حلقة مع أصحابه ن، فبال في ناحية المسجد، فقام الصحابة ن ليزجروه وينهروه لعلمهم بقبح هذه الصنيع وهو تلويث المسجد بالنجاسة، لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم نظر من زاوية أخرى أعمق وأشمل وهي المصلحة الكبرى فتعامل بروية ولطف، وقال: «لا تنهروه، وفي رواية: لا تزرموه فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، فلما انتهى من بوله قال عليه الصلاة والسلام: «أهريقوا عليه ذنوبًا من ماء»، ثم نادى الأعرابي، فأخبره أن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل، فأعجب الأعرابي وقال – في إحدى الروايات – «اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد حجرت واسعًا».

أرأيت – أيها القارئ – عمق هذا التعامل وحسنه، هكذا التربية بكمالها، وهكذا كان يعامل النبي صلى الله عليه وسلم أمته.

من هذا ينبغي على المربين اقتفاء هذا المنهج النبوي: رحمة ولطفًا وحسن تدبير وروية وحلمًا وسعة ونظراً إلى المصالح والمفاسد.

ولكن عندما يكون العمل جماعيًا خاطئًا، يغضب عليه الصلاة والسلام، فتراه يصعد المنبر ويحمر وجهه، وتنتفخ أوداجه ويقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، كما جاء في حديث أنس ا أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السرِّ فقال: بعضهم لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».

فلو قارنا بين الأسلوبين لوجدنا أنهما يكمل بعضهما بعضًا، ذاك اللين في موضعه، والحزم في موضعه، فاللين عند الخطأ الفردي غير المتعمد وأمثاله، والحزم عندما يكون الخطأ جماعيًا، أو على شكل ظاهرة من الظواهر يخشى أن تعم المجتمع بأكمله.

ولهذا نقول إن على المختصين في التربية أن يجلوا هذا المنهج النبوي الكمالي ليكون نبراسًا مضيئًا للأمة بأكملها، وسيجدوا فيه الغنية والكفاية، ما لا يجدون في غيره من مذاهب الناس: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.



بحث عن بحث