الثانية: الإيجابية والتغيير

الحياة قائمة على مجموعة من الثوابت التي لا يمكن المساس بها أو النقاش حول التبديل والتغيير فيها، ولكن يتبع هذه الثوابت متغيرات ومستجدات لا يمكن حصرها، وللإنسان أن يحركها حسب مدى النفع والضرر فيها، وتتحرك الإيجابية بين هذين المحورين.

فأما الثوابت فتتكون من قسمين :

القسم الأول: ما يتعلق بالدين، فهي كل ما علم منه بالضرورة كالإيمان بالله وأركانه الأخرى، وكذلك أركان الإسلام، ومسائل الحلال والحرام التي دلّت عليها نصوص قطعية وصريحة.

القسم الثاني: الثوابت الكونية التي لا يمكن الجدال حول حقيقتها ووجودها، مثل اختلاف الليل والنهار، الناتج عن حركة الأرض والشمس، فهذه الثوابت قائمة إلى يوم القيامة، وليس لأحد أن يبدلها أو يشكك فيها.

وأما التغيير فيكون في الأمور الأخرى الخارجة عن دائرة الثوابت، بشرط أن يكون من الأدنى إلى الأعلى وليس العكس، أي الارتقاء إلى أفضل الأحوال التي يمكن الوصول إليها، وأفضل أنواع التغيير في حياة الإنسان هو التحول من الكفر إلى الإيمان، ومن الشك إلى اليقين، ويتبعها سائر المتغيرات كالتحول من الظلم إلى العدل، ومن الكذب إلى الصدق، ومن  الخيانة إلى الأمانة، ومن الكراهية إلى المحبة، ومن الجفاء إلى التواصل، ومن العمل المفضول إلى العمل الفاضل، وهكذا.

وقد عبّر عن هذا النوع من التغيير الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب ط حين هاجر مع عدد من الصحابة إلى أرض الحبشة والتقوا بملكها، فأخبره عن حقيقة الإسلام والتحوّل الكبير الذي أحدثه هذا الدين في حياتهم من واقع مظلم مليء بالخبائث والمفاسد إلى حياة حرة تحمل كل المعاني الإنسانية السامية، فكان مما قاله هذا الصحابي للنجاشي تلك الكلمات التي بقيت مدوّنة في بطون الكتب بماء الذهب:

«أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قال: فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك».

والتغيير يبدأ من النفس، فمنها تكون الانطلاقة الأولى نحو الأفضل، لأنها مركز الإرادة والاختيار، وحال الواقع الخارجي للإنسان مرتبط بما تكنّه النفس من تطلعات ورغبات، فإذا كانت النفس طموحة إلى التجديد والتطوير في الحياة اندفع الإنسان معها نحو الأفضل، وإذا كانت النفس تميل إلى الركود والكسل وقبول الواقع السيئ فإن الإنسان يبقى أسير هذه الحالة اليائسة، وقد جعل الله ذلك سنّة ثابتة في الحياة بقوله عزَّ شأنه: âإِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْá.

وثقافة التغيير نحو الأفضل لون من ألوان الحضارة والرقي، فالشعوب والأمم تتقدم وتتطور إذا كان لها برنامج واضح في تغيير بعض القوانين والأنظمة والأفكار لديها في الميادين المختلفة، بحيث تتلاءم مع ما يفرض الواقع عليها، بشرط أن تكون نحو الأفضل والأحسن.

فمبدأ التغيير واقع تفرضه مستجدات الحياة، فكلما تقدم الزمن بالناس وظهرت لهم حاجات جديدة، يحدث تغيير على نمط حياتهم ومعاشهم، وهي فطرة في النفس الإنسانية، حيث يتطلع الإنسان دائمًا إلى الجديد المفيد الذي يتلاءم مع حياته المعاصرة ويحقق له رغباته وطموحاته.

وقد كان ظهور بعض المصادر التشريعية الأخرى غير الكتاب والسنة والإجماع، بسبب متغيرات الحياة ومستجداتها، كالمصالح المرسلة والاستحسان والاستصلاح والعرف وغيرها، حيث يعتمد معظم هذه المصادر على الاجتهاد البشري الذي يقارن فيها بين الأشباه والنظائر، والأسباب والمسببات، والأخذ بمبدأ القياس، في الحالات التي ليس فيها نص شرعي صريح، وقد عدَّ العلماء ذلك من المرونة في التشريع الإسلامي، حيث يدور الحكم مع العلة.

وبهذا؛ نعلم أن التغيير نحو الأفضل سنة كونية، وفطرة بشرية، ومطلب شرعي، يؤدي للإيجابية المنشودة، بمعنى أن الفرد الإيجابي يتغير عندما تكون أدوات التغيير الحسن متوفرة، أما الفرد الجامد أو الواقف عند حد معين لن يتقدم نحو الإيجابية كغيره.



بحث عن بحث