يتبع النوع الثالث: ما يدل على وجوب طاعته -صلى الله عليه وسلم- 

 

الصورة الثالثة : أمر الله بطاعة الرسول على الانفراد :

فالآية الأولى : يأمر الله تعالى باتباع أحكام الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويحكم عليهم بعدم الإيمان إن لم يسلموا بها تسليما، منبعثا من قلوبهم لا يخالطه ريب ولا شك، لأنهم تحاكموا إليه فوجب الإذعان له، ثم هو يقسم بربوبيته أنهم لا يكونون مؤمنين إلا إذا سلموا بأحكامه.

ولقد كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- بينهم، وتعرض عليه قضاياهم ومشاكلهم الكثيرة المتنوعة، فيقضي فيها وليس في القرآن ما يحكي الله فيه قضية واحدة حكم فيها الرسول طوال مدة حياته.

فالأحكام التي استحق من لا يستسلم لها بالخروج من الإيمان هي أحكام صدرت من الرسول خاصة في قضاياهم الخاصة، وهي تشريع منه وهدى إلى يوم القيامة يجب اتباعها والسير على هديها.

يقول ابن القيم: ( أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يقدمون العقل على ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد شهدوا على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه، وإن آمنوا بلفظه)(1).

ويقول في موضع آخر : ( وفرض تحكيمه، لم يسقط بموته، بل ثابت بعد موته كما كان ثابتا في حياته، وليس تحكيمه مختصا بالعلميات دون العمليات،كما يقوله أهل الزيغ والإلحاد) (2).

وفي الآية الثانية : يحذر الله تعالى الذين يخالفون عن أمره، وأمر اسم جنس مضاف، واسم الجنس المضاف من صيغ العموم (3)فيعم كل أمر،والضمير في أمره للرسول -صلى الله عليه وسلم- بدليل السياق في صدر الآية قال تعالى : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا، قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا، فليحذر الذين يخالفون عن أمره) أي لا تقيسوا، ولا تشبهوا أوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأوامر غيره، لأنه مميز بميزة الرسالة.

وللرسالة قداستها وقدسيتها التي جعلت إرداتنا تقتضي وجوب اتباع أوامره -صلى الله عليه وسلم-.

وقال الأخفش ( عن) صلة زائدة فيكون المعنى: فليحذر الذين يخالفون أمره، وغيره ضمن المخالفة معنى الأعراض لتتعدي بعن، لأن المخالفة فعل متعد بنفسه، وحينئذ لا تكون ( عن) زائدة. حكاه الرازي(4)، ونقل الألوسي(5) عن ابن عطية أن معنى ( عن) بعد، والمعنى حينئذ: فليحذر الذين يخالفون بعد أمره، كما يقال : المطر عن ريح وأطعمته عن جوع.

وسواء كان هذا أو ذاك فالآية بمنطوقها وبما صاحبها من قرائن منصوص عليها في الآية؛ وأهمها الوعيد الشديد على المخالفة تمحض الأمر للوجوب، وتقوى من دلالتها على وجوب طاعة الرسول إلى أن تجعل الأوامر في معظم ألفاظ الآيات محكمة لا تقبل التأويل.

والآية الثالثة : سبق الإشارة إليها، وعنها يقول ابن القيم : ( فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه ألا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه)(6).

أما الآية الرابعة : فهي خطاب مع القلوب والعواطف، وفيها يأمر الله رسوله أن يقول لهم ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، والتعقيب على هذا القول مما لا يبلغ فيه إنسان مبلغا يمكنه أن يحقق زيادة فائدة.

ويكفي أن كل من يدعى حب الله تعالى لا يسلم له ادعاءه، ولا يكون صادقا عنده في قوله، إلا إذا أحب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والحب درجات، وأدناها الاتباع، كما يقول كل من تكلم عن الحب الإلهي الصادق.

يقول ابن القيم : " لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى الخلىُّ حُرقة الشجيِّ، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) .

فتأخر الخلق كلهم، وثبت اتباع الحبيب في : أفعاله، وأقواله، وأخلاقه " (7).

وفي الآية الخامسة : أمر الله تعالى بطاعة الرسول سيدنا ( محمد) -صلى الله عليه وسلم- وأفرد طاعته أيضا في هذه الآية، كما أفردها في غيرها، غير أنه تعالى جعل الطاعة فيها هي سبيل الرحمة منه تعالى، وفيها وعد وترغيب على طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- طاعة عامة، لم يحددها الله بشيء ولم تخصص بمخصص، فبقيت على عمومها من وجوب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل ما يصدر عنه قرآنا كان أو سنة.

وفي الآية السادسة : يصف الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأوصاف لها دخل في الأمر باتباعه، فوصفه بالأمية وغيرها مما يقتضي العلم بأن ما يصدر عنه كان سبيله الوحي، ولذلك تجب طاعته طاعة عامة، ثم ختم الآية بوعد عظيم : ( واتبعوه لعلكم تهتدون).

وفي الآية السابعة : فيها ما سبق ذكره وما سيأتي من أن الله جعل طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- طاعة لله، وتوعد من تولي وأعرض بأشد أنواع الوعيد، والمتأمل في الآية يجد أن الله قد عبر عن طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بفعل المضارع ( يطع) بينما عبر عن طاعة الله تعالى بفعل الماضي ( أطاع) ليدل على أن من أطاع رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فقد وقعت طاعته قبل ذلك طاعة لله تعالى، لأن الله تعالى هو الذي أرسله، وأوجب طاعته، فمن أطاعه فقد أطاع مرسله، قبل أن يكون مطيعا له -صلى الله عليه وسلم-.

وفي الآية الثامنة : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وهذه الآية استدل بها ابن مسعود وابن عباس- وهما أعلم بإشارات القرآن الكريم على الاعتداد بالسنة.

قال ابن العربي : " قوله : ( وما آتاكم الرسول فخذوه) وإن جاء بلفظ الإيتاء، وهي المناولة فإن معناه الأمر، بدليل قوله ( وما نهاكم عنه فانتهوا ) فقابله بالنهي، ولا يقابل النهي إلا الأمر، والدليل على فهم ذلك ما ثبت في الصحيح، عن علقمة، عن ابن مسعود، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنصمات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله ) .

فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت ؟ فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في كتاب الله ! فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، قال : لئن كنت قرأته لقد وجدته، أما قرأت : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) قالت : بلى، قال : فإنه قد نهى عنه – وذكر الحديث " . (8)

وجه الدلالة في الآيات :

الآيات التي ذكرتها في أول هذا النوع اشتملت على صيغ أمر ونهي، تأمر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واتباعه،وتنهي عن معصيته ومخالفته، وقد حفت جميع الأوامر والنواهي في الآيات بقرائن سبق ذكرها في أول هذا النوع، وهي التي جعلت الأوامر فيها للإيجاب، والنهي فيها للتحريم، لا يخالف في ذلك أحد من العلماء.

وهي من هذا الوجه أي ملاحظتها بقرائنها تعتبر نصا صريحا في إيجاب اتباع الرسول وتحريم معصيته.

غير أنه كلما أمكن عرض الآيات مع ملاحظة الأوامر فيها والنواهي وملاحظة قرائنها أيضا التي حفت بالأوامر والنواهي من الوعد أو الوعيد التي ذكرت في الآيات، فإنها تكون أصح في الدلالة على وجوب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

كما أن أوجه الدلالة المتعددة التي ذكرتها في الأنواع والصور السابقة لا يستغنى مثبت لحجية السنة، بذكر بعضها عن كلها، فلابد من عرضها في الحجاج وتسلسلها، مع ملاحظتها كلها، لأن في اجتماع الدلالات من التنصيص على الحجية القطعية ما ليس في أحد الأوجه عند الانفراد.

وأختم هذا النوع بما قاله الشافعي (9)تحت عنوان ( باب ما أمر الله من طاعة رسول الله) قال :

 قال الله -جل ثناؤه- : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما)).

وقال : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله).

فأعلمهم أن بيعتهم رسوله بيعته، وكذلك أعلمهم أن طاعتهم طاعته.

وقال ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).

نزلت هذه الآيات – والله أعلم -، فيما بلغنا، في رجل خاصم الزبير في أرض، فقضي النبي بها للزبير.

وهذا القضاء سنة من رسول الله، لا حكماً منصوصأً في القرآن، والقرآن يدل – والله أعلم – على ما وصفت، لأنه لو كان قضاءً بالقرآن لكان حكماً منصوصاً بكتاب الله، وأشبه أن يكونوا إذا لم يسلموا لحكم كتاب الله نصاً غير مشكل الأمر: أنهم ليسوا بمؤمنين، إذا ردوا حكم التنزيل إذا لم يسلموا له.

وقال تبارك وتعالى : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا، قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).

وقال : ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض، أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون. إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم: أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون).

فأعلم الله الناس في هذه الآية أن دعاءهم إلى رسول الله ليحكم بينهم: دعاء إلى حكم الله، لأن الحاكم بينهم رسول الله، وإذا سلموا لحكم رسول الله فإنما سلموا لحكمه بفرض الله.

وأنه أعلمهم أن حكمه حكمه، على معنى افتراضه حكمه، وما سبق في علمه -جل ثناؤه- من إسعاده بعصمته وتوفيقه، وما شهد له به من هدايته واتباع أمره.

فأحكم فرضه بإلزام خلقه طاعة رسوله، وإعلامهم أنها طاعته.

فجمع لهم أن أعلمهم أنه فرض عليهم اتباع أمره وأمر رسوله، وأن طاعة رسوله من طاعته، ثم أعلمهم أنه فرض على رسوله اتباع أمره -جل ثناؤه-.

 


(1) - مختصر الصواعق المرسلة 1/113.

(2) -المصدر السابق 2/520.

(3) - انظر الاتقان للسيوطي 2/19.

(4) - انظر الفخر الرازي 6/347-348.

(5) - انظر روح المعاني 18/205.

(6) -إعلام الموقعين ( 1/51، 52).

(7) - مدارج السالكين ( 3/8).

(8) - أحكام القرآن ( 4/216، 217) والحديث أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب المتفلجات للحسن، رقم ( 5931 ) ، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة ، رقم ( 2125).

(9) - الرسالة 82-85.

 

 



بحث عن بحث