السنة المستقلة بالتشريع وآراء العلماء فيها(22)
موازنة بين الرأيين من قال بالاستقلال ومن أنكره:
ذكرنا فيما سبق آراء العلماء في استقلال السنة بالتشريع ، وبينا أنهم انقسموا حيال ذلك إلى فريقين :
فريق يرى أنها تستقل بالتشريع ، وذكرنا أدلته في ذلك .
وفريق يرى عدم استقلالها ، وأنها راجعة في معناها إلى الكتاب الكريم لأنها بيان له ، وقد ذكرنا أيضا أدلتهم ورد الفريق الأول عليهم.
وفي هذه الصفحات نعرض للموازنة بين الرأيين ، فأقول وبالله تعالى التوفيق.
إن المتأمل في أدلة الفريقين يجد أن الخلاف بينهم أقرب إلى أن يكون خلافا لفظيا ، فهم متفقون على وجود أحكام جديدة لم ترد في القرآن الكريم لا نصا ولا صراحة .
إلا أن الجمهور يقولون : إن هذا هو الاستقلال في التشريع بعينه ، لأنه إثبات لأحكام لم ترد في الكتاب .
أما الإمام الشاطبي ومن نحا نحوه : فإنهم مع تسليمهم بعدم ورودها بنصها في القرآن الكريم ، إلا أنهم لا يعنون بذلك عدم وجود أحكام زائدة في السنة على ما في الكتاب ، بل يقرون بوجودها ، إلا أنهم يقولون : إنها ليست زيادة شيء ليس في القرآن ، وإنما هي زيادة الشرح المستنبط من المشروح بإلهام إلهي ، ووحي رباني ، وتأييد سماوي .
وجملة القول : أن الخلاف في هذه المسألة وتعدد الأقوال فيها ليس في الاعتداد بالأحكام الزائدة التي ثبتت في السنة ، وإنما الخلاف في مخرجها. فمن قال باستقلال السنة في التشريع قال : ثبت لها الاستقلال من الأدلة التي وردت في القرآن الكريم الدالة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم ، لأنه مبين للناس ما نزل إليهم ، وبيانه تجب طاعته .
ومن قال : إن الزيادة التي وردت في السنة لم يثبت بها استقلالا ، وإنما تفرعت على أصل القرآن الكريم ، يقول : ما من حكم ثبت في السنة إلا هو قائم على أصل وجد في الكتاب الكريم ، وأن ما في السنة يرجع إلى نصوصه وإشاراته ، أو عمومه ، أو قواعده الكلية التي هي أساس ما فيه من الأحكام الجزئية .
وطالما اتفق الجميع على الاعتداد بالزائد منها فلم يبق إلا الخلاف في الطريق الذي ثبتت به ، وصار الخلاف لا أثر له في حقيقة الأمر وواقعه ، ولا يترتب عليه عمل ، بل هو خلاف لفظي .
ولذلك قال الشيخ محمد أبو زهرة : " وعندي أن الخلاف في هذا المقام لا يبنى عليه عمل ، بل هو أقرب إلى الخلاف اللفظي ، لأن كلا من الفريقين يستشهد بالسنة ، ويأخذ بما تأتي حجة مسلمة ولا يتوقف حتى يبحث عن أصلها في الكتاب ، ولأن الذي يقول : إن أصول السنة في الكتاب يوسع في معنى الأصل ، فيجعله يشمل الأصول العامة ، كالقاعدة التي تشمل أحكام باب من أبواب الفقه الإسلامي "(1)
(1) كتاب الشافعي ، هامش ص 239.