- الراجح:

         الراجح من هذه التعريفات هو التعريف الثاني، والذي يدرج أقوال الصحابة وأفعالهم في السنة، لكن مع الأخذ في الاعتبار أن السنة إذا أُطْلِقَتْ وعُرّفت تنصرف إلى سنته - صلى الله عليه وسلم-، أما إطلاقها على ما جاء عن الصحابة فإنما يأتي مقيدا، فيقال (سنة الخلفاء الراشدين) أو (السنة الراشدة) وسبب هذا الترجيح ما يأتي:

1-     أن الله - عزَّ وجلَّ- زكى الصحابة والتابعين في كتابه الكريم، فقال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(1).

              يقول الشاطبي: " سنة الصحابة - رضي الله عنهم- سنة يعمل عليها، ويرجع إليها، ومن الدليل على ذلك: ثناء الله عليهم من غير مثنوية(2)، ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها، كقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(3). وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(4).

2-     أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حَضََّ على الأخذ عنهم، فقال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ....)(5).

               وقال أيضاً: (إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).

             وقد أدرك سلفنا قيمة هذا التوجيه النبوي، فقرروا سنية أقوال الصحابة وأفعالهم:

        أخرج ابن عبد البر بسنده عن مالك بن أنس قال، قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها فهو مهتدٍ ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا"(6).

        وروى الدارمي بسنده عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود - رضي الله عنه- أنه قال: " ما أحب أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم- لم يختلفوا، فإنهم لو اجتمعوا على شيء فتركه رجل ترك السنة، ولو اختلفوا فأخذ رجل بقول أحد أخذ بالسنة "(7).

        وأخرج ابن عبد البر بسنده عن صالح بن كيسان قال: "اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم، فقلنا: نكتب السنن: فكتبنا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ثم قال: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، وقلت أنا: ليس بسنة فلا نكتبه، وكتب ولم أكتب، فأنجح وضيعت"(8).

       وهذا ما حدا بالإمام البيهقي أن يجمع في كتابه "السنن الكبرى" ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وما جاء عن الصحابة والتابعين من أقوالهم وأفعالهم، وكأن السنة عنده تشمل: المرفوع، والموقوف، والمقطوع.

3-     ما كونوا عليه من الفقه في الدين بحيث صاروا أقدر من غيرهم على الفتوى والاجتهاد، فكأن ما جاء عن هؤلاء من قول، أو فتوى، أو فعل، لا يخرج عن اقتداء بسنة، أو قياس على سنة، لذا كان من الأليق أن يكون داخلاً في مفهوم السنة.

        قال الشاطبي: "جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل، فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلاً، وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلاً، وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلاً، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة.

        وحسبك من ذلك: ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم، وذم من أبغضهم، وأن من أحبهم فقد أحب النبي - صلى الله عليه وسلم- ، ومن أبغضهم فقد أبغض النبي - صلى الله عليه وسلم-، وما ذاك من جهة كونهم رأوه، أو جاوروه، أو حاوروه فقط، إذ لا مزية في ذلك، وإنما هو لشدة متابعتهم له، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته، مع حمايته ونصرته، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة، وتجعل سيرته قبلة"(9).

 


 


(1)       سورة التوبة / 100.
(2)       أي من غير استثناء.
(3)       سورة آل عمران /110.
(4)       سورة البقرة /143.
(5)       أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، رقم (4607)، والترمذي في سننه، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، رقم (2676)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في سننه، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، رقم (42، 43).
(6)       جامع بيان العلم (2/1176 رقم 2326)، وأخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/435رقم 455).
(7)       سنن الدارمي، المقدمة، باب اختلاف الفقهاء (1/151).
(8)       جامع بيان العلم (1/333 رقم (442) وإسناده صحيح، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11/258-259).
(9)        الموافقات (4/ 456، 462، 463).

 



بحث عن بحث