القاعدة الثالثة عشرة:

التقويم والمحاسبة

إن مراقبة النفس ومحاسبتها بين الحين والآخر من العوامل المهمة في بناء شخصية الإنسان وتوجيهها نحو النجاح، وبهذه المتابعة والمحاسبة يضع الإنسان لبنات التطور في حياته، من تقليل الأخطاء والحدّ منها، والإكثار من الإنجازات والإبداع فيها.

ويستطيع الإنسان أن يجعل من أي فشل أو عثرة منطلقًا نحو النجاح والإبداع والابتكار، من خلال معرفة أسباب الفشل وظروفه، ومن ثم إيجاد الآليات المناسبة لتفاديها في المراحل القادمة.

ويمكن بحث هذه القاعدة من خلال المحاورة الآتية:

أولاً: الأدوات المعينة على المراقبة والتقويم :

ثمة مجموعة من الخطوات والآليات التي تعين الإنسان على مراقبته لأفعاله وأقواله، ثم تقويمها بعد ذلك، للوصول إلى الأهداف المنشودة بأقصر الطرق وأخف الأعباء، وأهم هذه الخطوات:

1 ـ مراقبة الله تعالى في السرّ والعلن، بأنه جل ثناؤه يسمع ويرى، وأنه لا تخفى عليه خافية في الليل والنهار، قال الله تعالى: âأَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ á قال جل ثناؤه: âأَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ á.

وقال الشاعر:

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعةً

  خلوت، ولكن قلْ عليّ رقيبُ
ولا أن ما نخفيه عنه يغيبُ

2 ـ استشعار حجم الخطأ في النفس، وعدم التهاون أو الاستصغار من شأنه، فالعبد الذي يستصغر الأخطاء ويتهاون فيها، يتوجه نحو الفشل المؤكد، لأن مجموع هذه الصغائر تشكّل في المستقبل عوائق كبيرة في طريق النجاح، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه».

فإذا استشعر الإنسان بعظم الخطأ وإن كانت صغيرة، فإن الفطرة السليمة تحرّكه لتفاديه في المستقبل.

وهذا شأن المؤمن الصادق الذي يتعثر ويقع في الأخطاء في حياته، ولكنه يتوب وينوب ويستفيد من تلك الأخطاء لبناء المستقبل، كما قال الله تعالى على لسان آدم وحواء عليهما السلام: âقَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ á.

3 ـ حسن الظن بالله تعالى، وأنه الرحيم بعباده، يعفو عنهم ويتجاوز عن خطاياهم إذا أنابوا إليه بالتوبة الصادقة والعمل الصالح، قال الله تعالى: âقُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ á.

4 ـ الابتعاد عن المراقبة السلبية، المتمثلة في جلد الذات وتأنيبها في كل الأوقات، أو الحسرة الدائمة على ما حدث في الماضي، لأن ذلك يورث في الإنسان العجز والكسل للقيام بأي عمل وتطويره، قال الله تعالى:  âلِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ á.

وضع برنامج تقييمي يحدد فيه الإنسان أوقاتًا معينة للمراجعة والمحاسبة، وليكن على مستوى فترات زمنية قصيرة، كأن يقعد مع نفسه في الأسبوع ساعة أو ساعتين ويعيد شريط أعماله خلال ذلك الأسبوع، لمعرفة أخطائه، لتفاديها وإيجاد العلاجات لها، وكذلك لمعرفة نقاط النجاح والصواب في تلك الفترة للاستمرار عليها وتطويرها نحو الأفضل.

ثانيًا: طرق المراقبة والتقويم :

يمكن تقسيم طرق المراقبة إلى قسمين:

1 ــ المراقبة الداخلية أو النفسية، وذلك من خلال:

أ ـ الإكثار من ذكر الله تعالى بقراءة القرآن والدعاء والاستغفار وغيرها، لأن الذكر يعين على استقرار النفس وهدوئها، ومن ثم إيجاد السلوك الحسن، والتعامل المتزن، قال الله تعالى: âأَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ á.

ب ـ تطهير النفس من الحسد والحقد على الناس، وتمني الخير لهم والدعاء لهم بالهداية والسعادة في الدارين.

ج ـ تطهير النفس من الكبر والغرور والاستعلاء على الناس، وغرس التواضع فيها، حتى تصبح الرؤية إلى الأشياء متزنة ودقيقة.

د ـ غرس التفاؤل في النفس وطرد اليأس وأسبابه منها، بحسن الظن بالله تعالى، بأنه ولي التوفيق والقادر على كل شيء.

هـ ـ غرس الإرادة والعزيمة في النفس للعمل والحركة في المجالات المختلفة.

و ـ عدم الخوف من المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله، والبُعد عن الأوهام والوساوس التي تهوّل المجهول القادم.

2 ـــ المراقبة الخارجية أو الجوارح، وذلك من خلال:

أ ـ  المحافظة على الفروض والواجبات وعدم التهاون فيها.

ب ـ المحافظة على اللسان وسائر الجوارح من الخوض في الحرام والمعصية.

ج ـ المحافظة على حقوق الناس، وعدم الاعتداء عليها بأي شكل أو وسيلة.

د ـ تصحيح أخطاء الماضي بالتوبة إلى الله، والالتزام الصادق بأوامره جلّ وعلا.

هـ ـ الاستفادة من أخطاء الماضي من أجل خطوات صائبة نحو مستقبل مشرق.

و ـ مصاحبة أهل العلم والناجحين ودراسة سير حياتهم العلمية والعملية.

ز ـ الاجتهاد في العمل وتطويره، وفق الإمكانات المتاحة، وعدم التوقف عند حدّ معين في طريق النجاح.

ثالثًا: فوائد التقويم والمحاسبة :

لهذا المنهج فوائد وثمرات كثيرة وكبيرة على صاحبه ومجتمعه، ومن أهم هذه الثمرات:

1 ـ الفوز برضا الله تعالى الذي يفرح بتوبة عبده، كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة».

2 ـ الوصول إلى مرتبة الإحسان التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

3 ـ إنها تكشف الأخطاء السابقة للإنسان فيتفادها في المستقبل، ولولا المراقبة لـمّا تبيّن له تلك الأخطاء وربما وقع فيها مرة تلو الأخرى.

4 ـ بناء الثقة في النفس، والثبات على طريق النجاح، لأن الاعتراف بالخطأ يعني المضي في الطريق الصحيح، وإن عدم الالتفات إلى كلام الناس عند التراجع عن الخطأ من أهم مقوّمات بناء الشخصية القويمة والقوية.

5 ـ في المراقبة والتقويم تحقيق لمبدأ العدل وإرجاع الحقوق لأصحابها، لأن كثيرًا من المظالم تقع على الناس وتستمر لفترات طويلة بناء على مقدمات خاطئة تقع من غير محاسبة أو مراقبة.

¡  ¡  ¡

وأخيرًا:

فإن الأمر يتعلق بحياة الأمم والشعوب أيضًا، لأن مصير الأمم مرتبط بمفهوم هذه القاعدة، فإذا تُرك الناس من غير متابعة ومراقبة، وبالتالي من غير تقويم للسلوك في المجالات المختلفة، فإن مصير الأمة تنتهي إلى الهاوية وإلى التخلف والبقاء في مؤخرة الركب الحضاري، وأما إذا صار الناس تحت مراقبة القانون والدستور، وتم تطبيق الأحكام والتشريعات بحق جميع المقصرين والمعتدين، مهما كان شأنهم وألقابهم في المجتمع، فإن مصير هذه الأمة ومستقبلها هو الوصول إلى القمة وتحقيق النجاح في شتى ميادين الحياة.



بحث عن بحث