الوقفة الثالثة:

تطبيقات السلف وأقوالهم في إدارة الوقت

لم يصل سلف هذه الأمة إلى ما وصلوا إليه من القيادة والريادة في العلم والعمل إلا نتيجة تقديرهم لعامل الزمن واستغلاله في معالي الأمور، فقد سخّروا كل إمكاناتهم وقدراتهم من أجل تحقيق الأهداف التي كانوا يسعون إليها، سواء في نشر الدعوة إلى الله، أو في التحصيل العلمي، أو في التجارة أو الصناعة وغيرها.

وكان إذا مضى يوم على أحدهم ولم ينجز فيه عملًا، أو يقدم خيرًا، يصيبه الندم والحسرة.

  • قال ابن مسعود رضي الله عنه: «ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد عملي». وقال في موطن آخر: «إني لأكره أن أرى الرجل فارغًا ليس فيه عمل آخرة ولا عمل دنيا».
  • وقال الحسن البصري: «أدركت أقوامًا، كان أحدهم أشحّ على عمره ووقته منه على درهمه وديناره». وقال كذلك: «يا ابن آدم إنما أنت مجموعة أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك».
  • وقال ابن القيم رحمه الله: «إضاعة الموت أشدّ من الوقت، لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله، والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وأنا أجد من حرصي على العلم، وأنا في الثمانين أشد ما كنت أجده وأنا ابن عشرين».

التطبيقات العملية لحال السلف مع الوقت:

إن نظرة عميقة في واقع السلف، تبين حجم الإنجازات التي تحققت في عهودهم في الميادين المختلفة، ونذكر على سبيل المثال الخلفاء الراشدين ن:

n   أبو بكر الصديق رضي الله عنه:

رغم قصر المدة التي حكم فيها أبو بكر رضي الله عنه إلا أنه أنجز مهمات إدارية عظيمة، منها:

1 ـ حربه ضد المرتدين الذين مرقوا على تعاليم الإسلام، ومنعوا أداء الزكاة، وتبع بعضهم مدعي النبوة مسيلمة الكذاب، فأعانه الله وقضى عليهم، وقد استشهد عدد كبير من المسلمين في تلك المعارك، وخاصة من حفظة كتاب الله.

2 ـ جمع كتاب الله: وكان ذلك باقتراح من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين رأى استشهاد عدد كبير من حفاظ القرآن في حروب الردة، واقتنع أبوبكر بكلام عمر م، فأمر زيد بن ثابت رضي الله عنه بجمع القرآن وقال له: «إنك رجل شاب عاقل لا نتَّهمك، وقد كنتَ تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتَتَبَّع القُرْآن فاجْمعُه».

3 ـ إعداده الجيوش للفتوحات خارج الجزيرة العربية، وتم في عهده فتح كثير من المناطق في العراق تمهيدًا لبلاد فارس.

n   عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

تميزت فترة حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكثير من الإنجازات العظيمة على مختلف المستويات ومناحي الحياة، من أهمها:

1 ـ أنشأ ديوان الخراج لمصاريف الدولة ومواردها، وديوان الجند من أجل معرفة أعداد الجنود وأسمائهم، لسهولة توزيع الرواتب عليهم، وكذلك أسس ديوان العطاء لتدوين أسماء المسلمين وخاصة الفقراء والمحتاجين لإعطائهم من ميزانية بيت المال.

توسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه، حيث فتحت بلاد فارس، وبلاد الشام ومصر وغيرها.

3 ـ أنشأ عمر رضي الله عنه بعد الفتوحات الإسلامية ما يسمى تنظيم الولايات، حيث جعل على كل ولاية واليًا، وكان رضي الله عنه شديدًا معهم في المتابعة والمحاسبة.

4 ـ ألغى عمر رضي الله عنه الضرائب عن أهل كثير من المناطق المفتوحة، مثل بلاد فارس والروم.

5 ـ أسقط عمر رضي الله عنه الجزية عن النساء والضعفاء والفقراء من غير المسلمين.

6 ـ تم في عهد عمر رضي الله عنه إنشاء بعض المدن، مثل الفسطاط في مصر، والبصرة والكوفة في العراق.

وغيرها كثيرة تلك الأعمال الإدارية العظيمة التي قام بها هذا الخليفة الراشد رضي الله عنه .

n   عثمان بن عفان رضي الله عنه :

إضافة إلى الفتوحات التي تمت في عهد عثمان رضي الله عنه في أفريقيا وأذربيجان وأرمينية، إلا أن أعظم عمل قام به عثمان رضي الله عنه، هو كتابة القرآن الكريم على لهجة قريش، بعد أن أشار إليه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بذلك، حين رأى اختلاف الصحابة في قراءته.

n   علي بن أبي طالب رضي الله عنه :

واجه علي رضي الله عنه فتنة الخوارج بالحكمة والمحاورة حينًا، وبالشدة والقوة حينًا آخر، كما نقّل مركز الخلافة من المدينة المنورة إلى الكوفة.

*   *   *

وقد نهج التابعون، وتابعو التابعين نهج هؤلاء العظماء في تنظيم العلوم والمعارف من جهة، وتنظيم أمور الدولة والرعية من جهة أخرى، وظهرت حركات علمية قوية في الفنون المختلفة، فقد بذل السلف جهودًا كبيرة في كتابة السنة النبوية وتنقيحها وفق مناهج علمية دقيقة، مثل الإمام مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، رحمهم الله جميعًا، وكتابة السيرة النبوية وأحداثها، وتصنيف العلوم الشرعية إلى العقيدة والفقه والتفسير والحديث وغيرها. إضافة إلى الإبداع الكبير الذي ظهر في مجال العلوم الطبيعية والتجريبية، حتى أصبح بعض المناطق في العالم الإسلامي منارات شاهقة تتوافد إليها الناس من جميع الأمم والملل.

وفي الجانب الآخر استمرت الفتوحات الإسلامية، وظهرت أنظمة جديدة تتناسب مع المستجدات في المجالات المختلفة، لا سيما بعد دخول الأعاجم في الإسلام، ودخول ثقافات وعادات جديدة بين المسلمين.

فضلًا عن مجال نشر العدل والرحمة والأمان في الأرض، وعمارة الكون، وعبودية الله وحده.

كل ذلك كان بفضل الله تعالى، ثم الإدارة الفاعلة للوقت والحياة التي اتسمت بها تلك الأجيال المباركة، سواء في القيادات، أو في العلماء، أو في عامة الناس.

نستخلص من هذه التطبيقات العملية ما يلي:

1 ـ الاهتمام العظيم بقيمة الوقت.

2 ـ الإخلاص في أداء الأعمال والإتقان فيها.

3 ـ التخطيط والتنظيم في جميع شؤون الحياة.

4 ـ الانسجام مع المستجدات والقضايا المعاصرة.

5 ـ الاهتمام بالعلوم المختلقة، الشرعية والتجريبية.

ومن خلال ذلك، تتشكل معالم إدارة عالية الجودة في التصور أولًا، وترجمته إلى واقع عملي ثانيًا.

وبالنظر إلى واقع الناس اليوم نرى تفريطًا كبيرًا من حيث:

1 ـ عدم الاهتمام بالوقت، وتصريف معظمه في  الأمور الدنيوية.

2 ـ جعل الوقت عدوًا يصارعه، لذا يسعى الكثيرون إلى قتله وهدره في الأشياء التافهة والصغيرة، حتى يقول بعضهم: نفعل كذا لقتل الوقت.

والنتيجة: إهمال للواجبات الشرعية، والأسرية، والوظيفية، وحصول الملل والكسل.

نعم هناك قلّة هم الصفوة: يديرون الوقت والحياة إدارة متقنة ومفيدة بنسب متفاوتة، ويترتب على ذلك نجاح في معظم شؤونهم، والبعض الآخر يدركون قيمة الوقت وضرورة إدارته، إلا أن ثمة أسباب تحول دون إدارته، فيصابون بالإحباط والقنوط، وهكذا.

ولذا؛ نعرض لبعض عوامل قتل الوقت وتضييعه، قبل أن نعرض لمعالم إدارته.



بحث عن بحث