ثانيًا: ما يضعف الجسم:

إن الشارع الحكيم أنزل ما يحفظ الكليات الخمس، فأوجد ما ينفعها، وأبعد ما يضرها مهما كان هذا الضار، حتى ولو كان أمرا دينيا، فإن الشارع الحكيم نهى الإنسان أن يضر نفسه، ولو بأمر ديني، ولذلك لما أراد الصحابة رضي الله تعالى عنهم الوصال في الصوم، نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال، ولما ألحوا عليه، وقالوا : إنك تواصل، قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني.

فمن هذه المفطرات الحسية التي تفطر الصائم، وقيل: إن الحكمة في المنع منها أنها مما يضعف الجسم:

1-  الجماع: وهو تغييب حشفة الذكر في فرج قبلًا كان أو دبرا ولو من بهيمة، فيفطر كل من الواطئ، والموطوءة، المطاوعة؛ لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله. قال: «وما أهلكك؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: «هل تجد ما تعتق رقبة؟» قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين». قال: لا. قال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا. قال: لا. ... الحديث».

2-  إنزال المني باختيار الصائم، سواء كان ذلك  بمباشرة بما دون الفرج كاللمس أو القبلة أو الغمز ونحوه أو استمناءً؛ لأن نزول الشهوة منافية للصوم وحكمه، والدليل على ذلك الحديث الصحيح، فإن الله تعالى قال في الصائم: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» والاستمناء شهوة، وخروج المني شهوة). أما ما لم يكن باختياره، فليس يفطر، كالاحتلام.

3-  استدعاء القيء قليلا كان أو كثيرا؛ لحديث أبي هريرة ط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استقاء عمدا فليقض، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه» فإن استدعاه الصائم ولم يقيء فلا يفسد صومه. واستدعاء القيء له طرق: النظر، والشم، والعصر، والجذب، وربما السمع أيضًا.

أما النظر فكأن ينظر الإنسان شيئًا كريها فتتقزز نفسه ثم يقيء، وأما الشم فكأن يشم رائحة كريهة فيتقيء، وأما العصر فكأن يعصر بطنه عصرا شديدًا إلى فوق ثم يقيء، وأما الجذب بأن يدخل أصبعه في فمه حتى يصل إلى أقصى حلقه ثم يقيء، والسمع ربما يسمع شيئًا كريها.

4-  الحجامة: وهي مشتقة من الحجم، وهو تحديد الموضع، والحجم: فعل الحاجم. وقد حجمه يحجمه فهو محجم، والاسم الحجامة. والمحجم والمحجمة: قارورته.

والحجم: المص. يقال: حجم الصبي ثدي أمه إذا مصه. والحجام: المصاص.

قال الأزهري: يقال للحاجم حجام لامتصاصه فم المحجمة.

فالحجامة إذا: هي تحجيم الدم في الكم والكيف المناسب واللائق بالصحة، مما يقتضي استخراجه إن كان فاسدا أو زائدا، وهي نوع من الجراحة التي تحجم موضع الداء، ثم تستخرج دما فاسدا يكون فيه سبب الداء، أو فيه إنتان بؤري يهدد حياة الإنسان، أو تخفف من وطأة الدم وهيجانه مما يريح القلب والكبد والكلى والرئتين، وكل خلايا الجسم، مع تنشيط مراكز الطاقة في الإنسان.

ويدخل في معناها: التبرع بالدم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة طرق أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» وثبت عن ابن عباس ط أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.

ونتيجة لذلك، فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة إلى قولين:

القول الأول: ذهب الإمام أحمد إلى أن المحتجم يفطر بالحجامة وهو قول علي وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنها . واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.

وحجة الحنابلة:

1-    حديث: «أفطر الحاجم، والمحجوم».

2-    تضعيف الإمام أحمد لحديث ابن عباس المتقدم وهو في البخاري. وعلى فرض صحته فهو منسوخ.

القول الثاني: ذهب الجمهور؛ أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وغيرهم إلى أن الحجامة لا يفطر بها الحاجم ولا المحجوم، وبه قال ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وأبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم.

 وبهذا القول قال جماعة من السلف وحجتهم:

1-    أن الحديث المتقدم حديث ابن عباس ثابت صحيح.

2-    حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم» هو المنسوخ.

3-    ضعفوا حديث « أفطر الحاجم والمحجوم».

القول الراجح: ليس على دعوى النسخ من الفريقين برهان، لا سيما مع الجهل بالتاريخ، ثم إن الحديثان صحيحان، لا مطعن في واحد منهما، فينبغي أن نسلك في مثل هذا مسلكين:

أ- إما أن يقال:  «إفطار الحاجم والمحجوم» منسوخ بحديث آخر وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم» والرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجمًا أو محجومًا.

ب:  وإما أن يقال: النهي عن احتجام الصائم ليس على التحريم فيحمل حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» على المجاز، بمعنى أنه سيؤول أمرهما إلى الفطر، ويؤيد هذا ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما؛ إبقاء على أصحابه......» فدل على أنه إنما كره ذلك في حق من كان يضعف به، ويؤكده حديث ثابت أنه قال لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف.

والأولى هو: أن يجتنب الصائم الحجامة وما في حكمها، فلا أقل من كونها شبهة للفطر.

خلاصة ما سبق:

1-                    من أصول المفطرات : الأكل والشرب وهذا عام يشمل ما ينفع وما يضر.

2-                    أن الحقن المغذية والتبرع بالدم للصائم من المفطرات لأنها تمد الجسم بعناصر الغذاء.

3-                    أن الجماع من أصول المفطرات، وأدخله البعض فيما يضعف بالجسم، وهو مقصود لذاته؛ لحديث « ...يدع شهوته من أجلي..».

4-                    أن الحجامة وما في حكمها مما يضعف الجسم، ويجب على الصائم تجنبها.



بحث عن بحث