الوقفة الحادية عشرة

أحكام النيابة في الحج

سبق معنا أن الحج إلى بيت الله الحرام واجب في العمر مرة على المسلم المكلف المستطيع قال رضي الله عنه بحانه وتعالى: âوَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ á [آل عمران: 97].

وقد ذكر العلماء أن الاستطاعة في حق الجميع ملك زاد يحتاجه في رضي الله عنه فره ذهابًا وإيابًا من مأكول ومشروب وكسوة وملك وعائه ولما لابد منه أو ملك أجرة تمكنه من الركوب ذهابًا وإيابًا بمعنى أنه يستطيع الحج ماديًا وبدنيًا، وعنده ما يكفي أهله في حال غيبته، وفائضًا عن ديونه وحقوق الآخرين عليه، وكذا حاجته التي يحتاج إليها لما رواه أحمد عن الحسن لما نزلت هذه الآية: âوَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ رضي الله عنه بِيلًاá، قال رجل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: «الزاد والراحلة» رواه البيهقي.

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الزاد والراحلة» يعني قوله:     âمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ رضي الله عنه بِيلًاá رواه ابن ماجة.

فمن توفرت لديه الاستطاعة يجب عليه المبادرة بالحج، ولا شك أن هذا التشريع رحمة من الله رضي الله عنه بحانه وتعالى بعباده إذ لو كلفهم بالحج كل عام لم يستطيعوا كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس: كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال في كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعلموا بها ولم تستطيعوا، الحج مرة فمن زاد تطوع»، رواه أحمد والنسائي والدرامي.

فلله الحمد والمنة على هذا التيسير العظيم، وعلى هذه الرحمة والرأفة بهذه الأمة.

ثم ليعلم المسلم: أن من عجز عن الحج لكبر أو مرض لا يرجى برؤه لكونه ثقيلًا لا يستطيع الركوب إلا بمشقة شديدة أو لكونه ضعيف الجسم جدًا وما شابه ذلك لزمه أن يقيم نائبًا يؤدي عنه هذه الفريضة لحديث ابن عباس –رضي الله عنهما- أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفحج عنه؟ قال: «نعم»، متفق عليه.

وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه فأحج عنه قال: أنت أكبر ولده قال: نعم قال: «فحج عنه».

فنفهم من هذين الحديثين أن المسلم إذا عجز عن الحج لمرض أو كبر لا يستطيع معهما الحج حج عنه وليه.

أما من مرض مرضًا يرجى برؤه فلا يستنيب، ولو فعل لم يجزئه لمفهوم الحديثين السابقين.

وذكر أهل العلم أن من أناب شخصًا آخر يحج عنه لمرض لا يرجى برؤه ثم عوفي من مرضه لم يجب عليه الحج مرة أخرى وذلك إذا عوفي بعد الفراغ من النسك لأنه أتى بما أمر به فخرج من العهدة كما لو لم يبرأ.

أما إن عوفي قبل إحرام النائب فإنه لا يجزيه للقدرة على المبدل قبل الشروع في البدل كالمتيمم يجد الماء.

أما إن عوفي بعد الإحرام وقبل الفراغ من النسك فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا يجزيه لأنه تبين أنه لم يكن مئيوسًا منه.

ومن لزمه الحج أو عمرة فتوفى قبله وان استطاع مع رضي الله عنه عة وقت وخلّف مالا أخرج عن الميت من ماله جميع ما وجب عليه.

ومن مات وعليه دين وقد لزمه حج وضاق ماله عنهما أخذ من ماله للحج بحصته كسائر الديون وحج عنه من حيث بلغ لقوله تعالى: âفَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْá [التغابن: 16]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

وإن مات من وجب عليه الحج بطريقه أو مات نائبه فيستناب عنه فيما بقي من مسافة.

ومن أراد أن يستنيب شخصًا للحج فيجب أن يكون النائب قد حج عن نفسه قبل أن يحج عن غيره فإن فعل بأن حج عن غيره قبل نفسه انصرف إلى حجة الإسلام لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه مع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة، قال: «حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة» رواه أبوداود وابن ماجة وصححه ابن حبان.

ولا ينسى النائب أن فعل النسك أمانة فيما أعطيه من مال ليحج منه فيعتمر ويركب وينفق منه بمعروف.

وهناك بعض الأمور التي يجب أن يعتني بها وأن لا يستهان بها وهي أن يحرص المستنيب على اختيار من يعرف أحكام الحج والعمرة تمامًا، وأن يكون تقيًا ورعًا وإن زاد في المدفوع، وإن كان طالب علم فهو أفضل وأكمل، لمعرفته بأحكام الحج والعمرة، وليحذر أن ينيب من يتهاون في أمور دينه كمن يهمل صلاة الجماعة أو يرتكب بعض المحرمات كمن يشتغل بالغيبة والنميمة والكذب أو من يغش ويرابي أو يعق والديه أو يبيع ويشتري بالمحرمات وغيرها، لأن المعاصي وأكل الحرام من الموانع لقبول الدعاء والأعمال.

وليحرص على أن يكون المال المدفوع للنائب حلالًا فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله طيبًا لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: âيَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ á وقال: âيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ á ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ويقول: يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له».



بحث عن بحث