الإِيمانُ باليَومِ الآخِرِ

(نعيم القبر وعذابه)

الخطبة الأولى

   الحمد لله نصب الكائنات على ربوبيته، ووحدانيته براهين، وحججاً، فمن شهد له بالوحدانية، وآمن بلقائه واستعد لمعاده، أفلح، ونجا، أحمده، سبحانه، وأشكره، وأتوب إليه، وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة الحق واليقين، والخوف، والطمع، والمحبة، والرجا، وأشهد أن سيدنا، ونبينا محمداً عبده ورسوله، أنزل عليه الكتاب، ولم يجعل له عوجاً، صلى الله وسلم، وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أنوار الهدى، ومصابيح الدجى، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان ما نهارٌ تجلّى. وما ليلٌ سجى.

أما بعد : عباد الله: اتقوا الله (إنما يتقبل الله من المتقين) [المائدة: 27]، واتقوا الله تنجوا من عذاب الله (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً) [مريم: 72]، واتقوا الله تكونوا الوارثين لجنة الله (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً ) [ مريم: 63].

أيها المسلمون:

  الركن الخامس من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، هذا اليوم العظيم، جاءت الشرائع كلها بتقريره، والتأكيد عليه، وبيان أحواله، وأهواله، وكتاب الله تعالى مليء بالآيات القرآنية الدالة عليه، والمرشدة إليه، والمقررة له، والموضحة لما يجري منه، هذا اليوم يوم مجموع له الناس، وهو يوم مشهود، يوم تتغير فيه حياة الناس: بسننها، ومعالمها، ذلك اليوم يوم الدين، وما أدراك ما يوم الدين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله.

   يوم أخبر الله عنه بأبلغ وصف، وأتم بيان، وأكثر من ذكره، وأحداثه العظام. اسمعوا ما قاله الله تعالى عنه: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً). [آل عمران: 30]. (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه). [آل عمران: 106]. (يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاًً) .[الفرقان: 27]. (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار). [ الأحقاف: 35]. (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد) [هود: 105]. (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبروزا لله الواحد القهار). [إبراهيم: 48]. (ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم). [ النحل: 89] (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهـــم لا يظلمون). [ النحل: 111]. (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً). [الإسراء: 52]. (يوم ندعو كل أناس بإمامهم). [الإسراء: 71] . (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة ). [الكهف: 47].

(يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً) [طه: 102].

(يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) [الأنبياء: 104].

(يوم تمور السماء موراً، وتسير الجبال سيراً) [الطور: 9، 10].

(ويوم تشقق السماء بالغمام ونُزِّل الملائكة تنزيلاً) [ الفرقان: 25].

(يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم) [الشعراء: 88، 89].

(ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض)[ النمل: 87].

(يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً) [المزمل: 14].

(يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء) [غافر : 16].

(يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) [غافر: 52].

(يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون) [ الدخان: 41].

(يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً). [ النبأ : 38].

(يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله). [ الانفطار: 10].

(يوم يقوم الناس لرب العالمين). [ المطففين : 6].

(يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة). [ البقرة : 254].

(ليوم تشخص فيه الأبصار). [إبراهيم : 42].

  هذا هو يوم القيامة، كما وصفه رب العزة، والجلال، هذا اليوم تتعالى فيه صيحات الكفار، والمنافقين والمضيعين لأنفسهم في هذه الحياة الدنيا، فمن قائل: (يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله ). [الزمر: 56] ومن قائل: (يا ليتني لم أوت كتابيه). [ الحاقة: 25]. (يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً). [الفرقان: 28]. (يا ليتني لم أشرك بربي أحداً). [ الكهف: 42]. ( يا ليتني قدمت لحياتي). [الفجر: 24]. ( يا ليتني كنت تراباً). [ النبأ : 40]. ( يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا). [ الأنعام: 27]. ( يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا) [الأنبياء: 97]. (يـا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ). [ يس: 52]. ( يا ويلنـا هذا يوم الدين). [ الصافات: 20] .

   وفي هذا اليوم يسعد المؤمنون المطيعون لربهم، وتتوالى تلك البشارات لهم (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور). [فاطر: 43]. (الحمدلله الـذي صدقنـا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء). [ الزمر: 74]. (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله). [ الأعراف: 34]

أيها المسلمون!

يبدأ يوم القيامة بالنسبة للأفراد منذ لحظة، موتهم وسكونهم في قبورهم، فالقبر أول منازل الآخرة، كان الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على القبر بكى حتى تبتل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة، والنار، فلا تبكي وتبكي من هذا، فقال: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشدّ منه" قال: وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم : ( ما رأيت منظراً

قط إلا القبر أفظع منه) رواه الترمذي، وابن ماجه  .

القبر: تلك الحفرة الضيقة التي لا أنيس فيها ولا جليس، ولا صديق، ولا سمير، إلا العمل الصالح أنيس أصحابه في قبورهم، ومزيل وحشتهم في رممهم.

القبر: موطن العظماء، والحقراء، والحكماء، والسفهاء، ومنزل الصالحين السعداء، والطالحين الأشقياء، السكون يرفرف على فضائه، والرهبة تنتشر بين أجوائه.

القبر باب وكل الناس داخلـه            فليت شعري بعد القبر ما الـــدار

الدار دار نعيم إن عملت بما            يرضي الإله وإن خالفت فالنـــار

  وقد ورد أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وأنه ينادي: (ويحك يا ابن آدم، ما عزك؟ ألم تعلم أني بيت الظلمة، وبيت الغربة، وبيت الوحدة، وبيت الدود؟ )  .

   هذه القبور: ظواهرها من التراب والحجارة مبنيات، وفي بواطنها الدواهي البليات، تغلي بالحسرات، كما تغلي القدور بما فيها، وقد حيل بين من فيها، وبين شهواتهم، وأمانيهم.

   أيها المسلمون! في القبر السؤال، والمناقشة، والتوفيق، والتثبيت، إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، كما سبق ذلك في الحديث الصحيـح.

إن عذاب القبر، ونعيمه هو عذاب البرزخ، ونعيمه، هو ما بين الدنيا، والآخرة، فالمصلوب، والغريق، والحريق، وأكيل السباع والطيور، والحيتان له قسطه من عذاب البرزخ، ونعيمه، حتى لو علق العاصي على رؤوس الأشجار في مهاب الريح، لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه، نعتقد ذلك، ونؤمن به، ولا نبحث في كيفيته، إذ لا سبيل للعقل في كيفية ذلك، قال تعالى: ( النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلــوا آل فرعون أشد العذاب). [غافر: 46]. وقال تعالى :  [ ولنذيقنهم مـن العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) [ السجدة : 21] روى الإمام مسلم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، دخل حائطاً من حيطان بني النجار، فسمع صوتاً من قبر، فسأل عنه: "متى دفن هذا؟" فقالوا: يا رسول الله، دفن هذا في الجاهلية، فأعجبه ذلك، وقال: " لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله ، عز وجل، أن يسمعكم عذاب القبر"   .

أيها المسلمون! في القبر يسأل عن أمور ثلاثة: عن ربه، ودينه، ونبيه، فالمسلم يجيب إجابة صريحة: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، صلى الله عليه وسلم، فيقال: صدقت، أما الكافر، والمنافق فيقول: هاه هاه، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً، فقلت، فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها، وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه.

  هذه فتنة القبر، فتعوذوا بالله من عذاب القبر، وأول منازل الآخرة، فأعدوا لهذا المنزل مقامه.

   اللهم أعذنا من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا، والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ، نفعني الله ، وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث