الحجُّ : آدابٌ ودروسٌ وتربيةٌ

الخطبة الأولى

   الحمد لله خص بيته الحرام بمزيد من التكريم، والتفضيل، وافترض حجه على من استطاع إليه السبيل، فارتفع النداء على حج هذا البيت بأمر الله على لسان إبراهيم الخليل، أحمده سبحانه، وأشكره، وأتوب إليه، وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده، ورسوله الموحى إليه بأشرف تنزيل، صلى الله، وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وأصحابه خير صحب، وأكرم جيل، والتابعين، ومن تبعهم، وسار على نهجهم، واقتفى أثرهم في الكثير، والقليل، أما بعد:

عباد الله ! اتقوا الله ربكم، واحفظوا أمره، وعظموا شعائره، وحرماته (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) [الحج: 78].

أيها المسلمون: في هذه الأيام المباركة، وفي هذا الشهر المبارك في أشهر الحج، يخطوا الحجاج خطواتهم دالفين إلى الأرض الطيبة، مزدلفين إلى المشاعر الآمنة، وقلوبهم متجهة لاهفة إلى بيت الله العتيق، ليؤدوا ركناً من أركان الإسلام العظيمة التي لا يقوم إلا بها (ولِلَّه على النَّاس حجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاًَ) [آل عمران: 97] وآخرون يشدون الرحال للتوجه إلى تلك البقاع الطاهرة بقلوب مفعمة بالإيمان، راغبين راهبين، ويجمع هؤلاء، وأولئك آصرة عظيمة، ورابطة كبرى سمت فوق كل الروابط، والعلاقات، لم يجمعهم لون، أو دم، ولا قبيلة، أو نسب، ولا مصالح دنيوية، أو أغراض سياسية، أو علاقات أرضية، يربط بينهم التقوى، والعقيدة، والتوحيد، جمعت الأسود والأحمر، والعربي، والأعجمي، والصغير، والكبير، والغني والفقير، والرئيس، والمرؤوس، (إنَّما المؤمنون إخوةٌ) [الحجرات: 10] فلا رابط ولا علاقة، ولا أخوة أسمى، وأشرف ولا أعظم، ولا أجل من تلك الرابطة التي ارتضاها ربنا سبحانه، وتعالى، وتظهر واضحة جلية في الاجتماع في هذا المكان لأداء هذه الشعيرة العظيمة في هذا الوقت الموحد، والحركة الموحدة متجهة لرب واحد بلباس واحد، سبحانك ربي ما أعظمك! سبحانك ربي ما أروع تشريعك! سبحانك ربي ما أجل الاستجابة لك! تذهب فوارق اللغة، واللون، والجنس، والغنى، ويبقى الدين، والإيمان، والتوحيد.

أيها المسلمون: والمسلم المبارك، وهو يستعد لأداء هذه الشعيرة المباركة يختلج في نفسه مشاعر عدة ، مشاعر الاستعدادات، والتهيؤ، ومشاعر رجاء القبول من الله، تعالى، ومشاعر تكفير السيئات، ورفعة الدرجات، يرجو أن يقدم إلى مكة بكامل الاستعداد، ويرجو أن يكون حجه مبروراً وسعيه مشكوراً، ويرجو أن يعود من حجه، وقد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"  يقرأ ويسمع قوله تعالى: (الحجُّ أشهر معلومات فمن فرض فيهنَّ الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) [البقرة: 197] ويقرأ ويسمع قوله عليه الصلاة والسلام :" والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلاَّ الجنَّة"  ، ويقرأ، ويسمع أن الله تعالى يباهي بأهل الموقف، ويقول لهم عشية يوم عرفة، انصرفوا مغفوراً لكم.

   هذه النصوص العظيمة، وهي تمر على ذهنه، ومخيلته، وهو يستعد للحج رجاء الحصول على مضامينها، وما احتوته من تلك الفضائل، والرغائب.

أيها المزمع على الحـج : ابـدأ تفكيرك بالحج بالاستشعار القوي بأنك متوجه لأداء عبادة عظيمة، وأداء ركـن مـن أركان الإسلام، وستبـذل جزءاًَ من مالك، وجهداً من جهدك، وستترك بلدك، وولدك، كل ذلك رجاء ما أعده الله، تعالى، لمن حج هذا البيت، فاستشعارك لهذا الأمر يعينك على أداء مهمتك بكل خشوع، وخضوع.

وهذا الاستشعار يجعلك تجدد التوبة مع الله، تعالى، لتقدم عليه مستغفراً تائباً، راجياً ما عنده، خائفاً من عدم القبول، وهذه بداية الانطلاقة السليمة لأداء عبادتك.

   وانظر بعد ذلك إلى مالك الذي ستنفقه لأداء هذا الركن العظيم، فخلصه من شوائبه، فقد ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلاَّ طيِّباً"  فمن حج بمال حلال، فحجه مقبول، ودعاؤه مقبول، وخطواته كلها أجر، وثواب، ومن حج بمال مشبوه، أو محرم، فقد عرض جهده، وتعبه، وحجه للرد، وعدم القبول.

أيها المتوجه للحج : خلص نفسك من مظالم الخلق بداية بالأقربين من الأسرة، والأقارب، والجيران، ثم ممن كان له حق عليك، لئلا يتعلق عملك، فلا يقبل، وتأتي غداً بأعمال كالجبال، ولكن لكثرة مظالمك توزع عليهم حسناتك، ثم لتعلم أيها الحاج الكريم أن أهم ما يعينك، وييسر حجك، ويقربك، إلى الخير الصحبة الطيبة ، فانتقِ الحملة المعروفة بضبطها للمناسك واقتدائها بحج النبي، صلى الله عليه وسلم، فللصحبة أثرها الذي لا يخفى، والقرين بالمقارن يقتدي.

أيها المسلمون: يا من نويتم الحج : شرطان عظيمان للحج المبرور بعد التهيؤ بتلك الاستعدادات: إخلاصه، وتجريده لله، سبحانه، وتعالــى، فيحج الحاج استجابة لأمر الله، تعالى، واقتداء برسول الله، صلى الله عليه وسلــم ورجاء لما أعده الله، تعالى، لحجاج بيته الحرام، وخوفاً من أليم عقابه، قال تعالى: (وما أُمروا إلاَّ ليعبدوا اللَّه مخلصين له الدِّين حُنفاء) [البينة: 5]، (قل اللَّه أعبُدُ مخلصاً له ديني)، [الزمر: 14]، والشرط الآخر: التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد حج، عليه الصلاة والسلام، حجة الوداع، وعند أداء كل منسك يقول: "خذوا عني مناسككم".

حجاج بيت الله الحرام: إن مما يجرح القبول، ويؤثر فيه قضاء وقت الحج بالقيل، والقال، والغيبة، والنميمة، والكذب، وقول الزور، والتعامل بالحرام، وعدم التوبة، وضياع الوقت سدى، فالمكان أفضل الأماكن، والزمان كذلك، والحال أداء الحج، فهذا وقت الرجاء، والعمل، والدعاء، فأين الموفقون؟

أيها المسلمون: يتجلى في الحج عظم توحيد الله، تعالى، وترسيخه في القلوب، فانطلاقة الحاج، وشعاره التوحيد : (لبيك اللهم لبيك).. وذكره في الطواف الدعاء، والثناء على الله، وأعظم الذكر في أعظم وقت في يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، فهذه الكلمة خير ما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، والنبيون من قبله، وما شرعت أعمال الحج كلها إلا لتعميق التوحيد.

   ويتجلى في الحج عظم الاستجابة للمولى، جل، وعلا، فامرأة الخليل، عليه السلام، تقول له لما تركه عند البيت :"آلله أمرك بها؟ قال: نعم "فاستسلمت، وأذعنت لأمر الله قائلة: "إذاً لا يضيعنـا الله"  ويأمر الله تعالى الخليل بذبح ابنه، فيستجيب، ويستسلم، ويقابل الابن، عليهما السلام، الاستجابة بمثلها: (يا بُنيَّ إنِّي أرى في المنام أنِّي أذبحك فانظر مــاذا ترى قال يا أبت افعل مـا تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين )(الصافات: 102)، وتأتي أعمال الحج كلها لتعمق هذا المعنى العظيم؛ فالطواف، والسعي، وتقبيل الحجر، ورمي الجمار، والوقوف، والمبيت تتجلى فيه هذه الاستجابة، يلهج لسان الحاج ليقول: لبيك اللهم لبيك.. معلناً استجابته لمولاه، وهكذا- عباد الله- حالة المؤمن مع ربه، جل، وعلا، في جميع أحواله، وظروفه، استجابة، وتلبية، فإذا سمع أمراً، أو نهياً قال: (سمعنا وأطعنا غفرانك ربَّنا وإليك المصير) [البقرة: 285] .

   المؤمن الحق يستشعر في الحج، وغير الحج قوله تعالى: (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مردَّ له من الله ما لكم من ملجأ يومئذٍ وما لكم من نكير) [الشورى: 97]، وكذا قوله: (وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) [الأحزاب: 36].

  وفي الحج تتجلى- أيها الإخوة- أخوة الدين، والتقوى والتنافس في عمق التوحيد، والمسابقة في العمل الصالح، فلا فوارق إلا بالتقوى، (إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13].

   وفي الحج- عباد الله- يتجلى نفع عباد الله، فتجتمع أنواع من العبادة في هذا الوقت القصير، فانفع بما تستطيع النفع فيه بلسانك، وببدنك، وبجهدك، وبرأيك، وبمالك، وبعلمك، وبنصيحتك، ودعوتك، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وبإطعام الطعام، وطيب الكلام، والصدقة، والإحسان، فإن لم تستطع هذا، ولا ذاك ، فاستعمل لسانك في الذكر، والدعاء، وكف الشر عن الناس، فذاك صدقة منك على نفسك.. هذا هو الحج- عباد الله- وهذه غاياته، وتلك آدابه، ودروسه، اللهم يسّر على الحجاج حجهم، واحفظ عليهم أنفسهم، وأهليهم، واخلف ما أنفقوا من أموالهم، وتقبل منهم ، واجعل حجهم مبروراً، وسعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً، إنك سميع مجيب، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث