صلاح القلب

الخطبة الأولى

   الحمد لله، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وبيَّن له صراطه المستقيم، وأعانه على بلوغه بعقل قويم، وقلب سليم، وأشهد أن لا إله إلا الله الرحمن الرحيم، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله ، صان فؤاده عن كل شيطان رجيم، صلى الله وسلم وبارك عليه، وزاده من التعظيم ، وعلى آله، وصحبه الذين عمروا قلوبهم بحب مولاهم الكريم والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد :

عباد الله!اتقوا الله حق التقوى ليوم لا ينفع فيه مال، ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

    أيها المسلمون! اعلمـوا أن أشـرف مـا في الإنسان قلبه، فبحياته يحيا الإنسان، وبصلاحه يصلح، وبفساده يفسـد: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسـد كله ألا، وهي القلب)  فهذا هو العالم بالله الساعي إليه، وهو محل الإيمـان والعرفان، وهو المخاطب المبعوث إليه الرسل، المخصوص بأشرف العطايا من الإيمان والعقل، وهـو الـذي أعطى القيادة لجوارح الإنسان، كان يهتم فيـه الرسول، صلى الله عليه وسلم، اهتماماً كبيراً، ويرعاه رعاية تامة؛ حتى إنــه كـان يكثر في دعائه : (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك).وكان يقول عنـد قسمه ويمينه:  (لا ومقلب القلوب) ، وكان يقول: " إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء)  كل ذلك أيها المسلمون، لأن مصدر الشقاء والسعادة فساد القلب وصلاحه، يقول ابن القيم رحمه الله: وإذا تأملت حال القلب مع الملَكِ والشيطان رأيت أعجب العجاب، فهذا يُلِمُّ به مرة، وهذا يُلِمُّ به مرة، فإذا ألمَّ به الملك حدث من لَمَّتِهِ، الإنفساح، والانشراح، والنور، والرحمة، والإخلاص، والإنابة، ومحبة الله، وإيثارُه على ما سواه، وقصرُ الأمل، والتجافي، عن دار الغرور، فلو دامت له تلك الحال لكان في أهنأ عيش، وألذه وأطيبه، لكن تأتيه لَمَّةُ الشيطان، فتحدث له من الضيق، والظلمة، والهم، والغم، والخوف، والسخط على المقدور، والشك في الحق، والحرص على الدنيا، وعاجلها، والغفلة عن الله هو من أعظم عذاب القلب.

أيها المسلمون!   إن القلوب تقسو، فتكون كالحجارة، أو أشد قسوة، فتبتعد عن الله، وعن رحمته، وعن طاعته، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، الذي لا ينتفع بتذكير، ولا يلين لموعظة، ولا ينفعه مقالة، ولا يعتبر بالأحداث، ولا يتعظ بالقرآن، فصاحب هذا القلب يحمل في صدره حجراً صلداً لا فائدة منه، ولا يصدر منه إلا الشر، ومن القلوب ما يلين عند سماع الموعظة، ويخشع عند قراءة القرآن وسماعه، ويخضع بالتذكير لخالقه، ويعتبر بما يجري من أحداث، فهذا قريب من الله تعالى، ومن رحمته، وطاعته، فيحمل صاحبه قلباً طيباً رحيماً يصدر منه الخير دائماً.

أيها المسلمون: لقسوة القلوب ولينها أسباب كثيرة، فمن أعظم الأسبـــاب تليين القلوب بقراءة القرآن، واستماعه: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) [ق: 45] ويقول سبحانه وتعالى : (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور) [يونس: 57] ويقول جل وعلا: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) [الإسراء: 82] ويقول سبحانه: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) [فصلت: 44] ويقول جل وعلا : (الله نزل أحسن الحديث كتابهاً متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) [الزمر: 23] . فبالقرآن القويم حياة القلوب، وسعادتها، وطمأنينتها، وبالغفلة عنه شقاؤها، وموتها، وغفلتها، وبعدها عن خالقها (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) [طه : 124] وإذا عميت القلوب ضلت، وأضلت.

   ومن أعظم ما يلين القلوب تذكر الموت، وزوال الدنيا، والانتقال للأخرى، ومن أعظم ما يقسى القلوب الغفلة عن الآخرة، ونسيان الموت، والانشغال بالدنيا: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) [آل عمران: 185]، وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة) وقال عليه الصلاة والسلام: (أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت).

   فالعمر قصير يجب انتهازه فيما يقرب إلى الله تعالى، وأن الدنيا تتقلب بأهلها، وأن يعلم أنه ليس له من ماله إلا ما أكل، فأفنى، أو لبس، فأبلى، أو تصدق، فأمضى، وأنه لا يتبعه إلا العمل، أما الأهل والمال، فيرجعـان، وأن يعلم أن السعادة الحقيقية بعبادة الله وذكره، وأن النعيم الدائم في الجنة، وأن الغنى الحقيقي غنى النفس، وأن الطمأنينة في القناعة، وأن الحرام عذاب في الدنيا والآخرة.

ولست أرى السعادة جمع مــال          ولكن التقيَّ هو السعيد

وتقوى الله خير الزاد ذخـــراً              وعند الله للأتقى مزيد

عباد الله! ألا وإن ما يلين القلوب الاعتبار بما جرى، ويجري للأمم الكافرة من الهلاك، والدمار، ووقوع الفتن، والبـلاء، ومن أعظم ما يقسيها الغفلة عن ذلك، يقول سبحانه:(فكأين من قرية أهلكناهـا وهي ظالمة فهي خاوية على عروشهــا، وبئر معطلة وقصر مشيد*أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) [الحج: 45-46]

عباد الله!ومن أعظم ما يلين القلوب الإكثار من ذكر الله، عز وجل، ومن أعظم ما يقسيها الغفلة عن ذكر الله يقول الله، سبحانه وتعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً) [الأنفال: 2]  ويقول تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [الرعد: 28] ويقول جل وعلا: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) [الكهف: 28] .

  ومن أعظم ما يلين القلوب قبول أوامر الله، والعمل بها، واجتناب نواهيه، ومن أعظم ما يقسيها الإعراض عن أوامر الله ونواهيه، يقول الله، سبحانه: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) [التوبة: 127] فبقبول الحق، وترك العمل به سبب لزيغ القلب وطغيانه، يقول الله، سبحانه وتعالى: ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) [الصف: 5].

أيها المسلمون!ومن أسباب لين القلوب واتعاظها التفكر في أحوال الموتى، والمرضى، والفقراء، والمبتلَيْن، ومن أسباب قسوتها الاغترار بالصحة والقوة، والشباب، والغنـى، والثـروة، والجاه، والمنصب، وغيرها، يقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (انظــروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكـم )  وقال تعالى في حق قوم عاد الذين غرتهم قوة أجسادهم وكثرة أموالهم: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون) [فصلت: 15-16] ، فلو زار الإنسان المستشفى، ورأى أحوال المرضى، وما يقاسونه من الألم، ولو نظر إلى الفقراء، والأيتام، وما هم فيه من الحاجة، والمجاعة، لعرف قدر نعمة الله عليه، ولان قلبه، ولكن إذا لم يتفكر في أحوال هؤلاء، ونظر إلى أهل الترف، والغنى، وما بأيديهم من زهرة الحياة الدنيا، فإنه يقسو قلبه، ويتعاظم في نفسه، وقد أمر الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، أن يجالس فقراء المسلمين، والمستضعفين، والمؤمنين، وأن لا يتجاوزهم إلى غيرهم، يقول سبحانه وتعالى: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) [الكهف: 28].

  اتقوا الله عباد الله! وراقبوا قلوبكم، وأصلحوها من فسادها، واطلبوا الدواء لدوائها، فبصلاحها صلاح الحال، والمآل.

   أسأل الله تعالى أن يصلح ما فسد من قلوبنا، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه، وتوبوا إليه، فيا فوز المستغفرين.



بحث عن بحث