صورتان للقدوة (1)

الخطبة الأولى

     الحمد لله القوي المتين، الذي أعز عباده المؤمنين، أحمده سبحانه وأشكره جعل العزة في التمسك بالدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه العز الميامين، الذين حملوا راية هذا الدين، وعلى من تبعهم بإحسان من الأولين والآخرين: أما بعد:

عباد الله ! اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى فإن أجسامكم على النار لا تصبر ولا تقوى.

أيها المسلمون!في القرآن الكريم عبرة لمن اعتبر، ومدكر لكل ذي لب وبصر، ومن ذلكم ما  رسمه القرآن الكريم في أربع آيات من سورة القصص، حيث تحمل هاتين الصورتين منهجاً فريداً، تحمل معالم أخلاقية فريدة لأهم ركنين من أركان أمم الأرض قاطبة، ومن خلالهما يُعرف مدى قوة تلك الأمم وثباتها وتقدمها، أو ضعفها وتمزقها وتحللها، ألا وهما الشاب والفتاة، فقد أورد الله تعالى صورة للشاب المؤمن القوي العفيف، متمثلة في موسى عليه السلام وهو في أرض مدين، وتقابلها صورة للفتاة المؤمنة العفيفة الطاهرة، التي تتحاشى مواطن الشبه والفتنة، متمثلة في امرأتين تسقيان أنعامهما وهما ابنتا شيخ كبير.

   يقول الله تعالى في بيان ذلك : (ولمَّا ورد ماء مدين وجد عليه أُمةً من النَّاس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتَّى يُصدر الرِّعاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولَّى إلى الظِّلِّ فقال ربِّ إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير. فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إنَّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلمَّا جاءه وقصَّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين. قالت إحداهما يا أبت استأجره إنَّ خير من استأجرت القويُّ الأمين) [القصص: 23-26].

   فأما الصورة الأولى، فهو الشاب المؤمن، فقد سجلت الآيات مجموعة من المعاني والصفات التي ينبغي للشاب المسلم أن يتحلى بها، وعلى رأس هذه الصفات:

القوة والنشاط والحيوية: حيث تحلى بها نبي الله موسى، عليه الصلاة والسلام، وهي ضرورة لا بد منها لكل شاب مؤمن، وتشمل هذه القوة هنا قوة الجسد وقوة الإيمان، وهكذا الشاب المسلم يسطر معنى القوة التي أكدها النبي، صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم وغيره: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير".

   فالمؤمن صاحب الخيرية يقوى في عقيدته وإيمانه، وفي أخلاقه وسلوكه، وفي إرادته وعزمه على الخير، وفي جسده، وهذه القوة يسخرها في سبل الخير ومجالات الفضيلة والأخلاق والبناء، لا في التدمير والتخريب والإفساد أيا كان نوع هذا الإفساد، سخرها نبي الله موسى، عليه السلام، فهو الشاب الطريد الهارب، وهو في بلد الغربة على أرض مدين لا يعرف طباع الناس وعاداتهم، نراه لا يرضى لنفسه أن يرى الناس يسقون أنعامهم من الماء، ويحرم من ذلك امرأتان تمنعان من سقي الماء، فقد أبت مروءة موسى، عليه السلام، ونخوته أن يحدث هذا الخلل أمام عينيه، فسارع إليهما قائلاً: (ما خطبكما قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) فسخر موسى قوته، وبذلها لنفع غيره .

والصفة الأخرى التي سطرتها الآيات لموسى عليه السلام صفة الأمانة: والأمانة من صفات المؤمنين شيوخاً وشباباً، رجالاً ونساءً، كما قال تعالــى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) [المؤمنون: 8]، وقد عُرف الرسول، عليه الصلاة والسلام، بين أهل مكة بـ "الصادق الأمين" فكان يضرب به المثل في الأمانة والوفاء، وبالأمانة تستقيم أمور الحياة، وتستقر أوضاعها، فإذا انعدمت الأمانة، وتفشت الخيانة، فإن مآل الناس سيكون إلى القلق والاضطراب في الأمور كلها، لأن فقدان الأمانة في الأمة يعني فقدان الثقة بين أبنائها، وهذا شر مستطير تفرز عنه ألوان المآسي والفتن.

ومن الصفات أيضاً صفة الجدية والعزم الصادق، والإرادة الخيرية: فهو حينما رأى أمامه مشهداً ظالماً، حيث يسقي الرجال دون النساء، فلم تمنعه متاعب السفر والخوف والملاحقة أن يرضخ أو ييأس من مناصرة الضعفاء، وهو المبدأ الذي آمن به، وأُخرج من أرضه وأهله من أجله، فليس ثمة قوة في الأرض تزعزع هذا اليقين الذي يفرض عليه العمل والجدية في جميع الأحوال والأزمان، هكذا الشاب الطموح جاد في علمه، وفي استغلال وقته، وفي توجيه قدراته وطاقاته نحو الخير والفائدة، والنفع لنفسه وأسرته ومجتمعه، هكذا يراد من الشاب لا أن يكون سهلاً ضائعاً يمضي عليه الليل والنهار في ترهات الأمور وسفاسها.

ـــــــــــــــــــــــ

 ومن الصفات التي تجلَّتْ في هذه الآيات التوكل على الله والاعتماد عليه، والإلحاح في الدعاء لإنجاح المساعي والمهام في مسيرة الحياة، فبعد أن سقى موسى عليه السلام للمرأتين وتحول إلى الظل، أخد يدعو ربه حيث لم يكن له غنى عنه، فهو الذي نجاه من فرعون وبطشه، وهو الذي قواه لإعانة هاتين المرأتين ونصرة الضعفاء، فأخذ يدعو ربه (ربِّ إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير) فما إن أتم دعاءه حتى جاءته إحداهما تمشي على استحياء، فكأن الخير الذي طلبه من ربه جاء يمشي على قدميه، فكان من أمر ذلك الرجل الصالح والد الفتاتين أن عرض عليه الزواج. إنها دعوة للإحصان، وغض البصر، وحفظ الفرج، ومتابعة طريق الرسالة والدعوة في محضن الزوجية المحاط بالحب والود، وهكذا كان الأمر مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين دعته السيدة خديجة بنت خويلد للزواج منها، فلقي منها كل حب ورعاية بدت من خلال كلمتها الحانية التي قالتها له حين رجع من لقاء جبريل عليه السلام أول مرة في غار حراء: "كلا والله ما يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ ، وتكسب المعدوم، وتَقرْي الضيف، وتُعين على نوائب الحق". أخرجه البخاري في صحيحه كتاب بدء الوحي برقم (3) .

   استمعوا أيها الشباب إلى ما مضى علينا من النماذج الحية، فهؤلاء أصحاب الكهف، وهم فتية من المؤمنين خرجوا من أهلهم وديارهم، وهجروا مراتع المعاصي لتسلم لهم عقيدتهم، ويرضى عنهم ربهم، ولعظم شأنهم ومكانتهم خصّهم الله تعالى بتسمية سورة من القرآن باسمهم، يقول عنهم ربهم جل ثناؤه: ( أم حسبت أنَّ أصحاب الكهف والرَّقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربَّنا آتنا من لدنك رحمة وهيِّىء لنا من أمرنا رشداً) [الكهف: 9-10].

   وصورة أخرى يسردها لنا ربنا، جل ثناؤه، في ذلك الشاب المؤمن الطاهر الصبور، وهو نبي الله يوسف عليه السلام، الذي صبر على ظلم إخوته، وصبر على ظلمة الجُبِّ، وتحدى فتنة المرأة التي عرضت نفسها عليه، فيأبى أن يخون الله ويخون الدار التي دخلها، والرجل الذي آواه، وبالتالي يفضل ظلمات السجن لبضع سنين على معصية الله تعالى في ظل ظليل، وعيش رغيد (قال ربِّ السِّجن أحبُّ إليَّ مما يدعونني إليه وإلاَّ تصرف عنِّي كيدهن أصب إليهنَّ وأكن من الجاهلين) [يوسف: 33].

أيها المسلمون!

   والشباب طاقة ونشاط، وقوة وحيوية، فإن لم يُستغل في الخير استُغل في ضده، وأعداؤنا لا يألون جهداً في استغلال شباب أمتنا في جميع الميادين، لتدمير طاقاتهم وقدراتهم، ونزع معالم الإيمان من صدورهم، وإبعادهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، صلى الله عليه وسلم، حيث سخّر هؤلاء الأعداء جميع قواهم لإشغال شبابنا في خطين منحرفين، أولهما في سفاسف الأمور، فهذه وسائل الإعلام الغازية من كل جانب، والتي دخلت بيوت المسلمين قد شغلت الشباب عن معالي الأمور، فهناك الكثيرون من هؤلاء الشباب يقضون الساعات الطوال أمام الفضائيات لمتابعة البرامج التافهة والخليعة  التي تخل بمكارم الأخلاق والآداب العامة، والتي تركز على تميع الشباب، وحصر اهتمامهم وتفكيرهم في الأغاني الماجنة والرقص المثير، واللبس وقصات الشعر وغيرها مما يندى لها جبين المؤمنين الغيارى.

   وفي خط آخر: في الغلو والنظر إلى الأشياء والحكم عليها من منظار ضيق حرج، أصاب الأمة في عقيدتها وأمنها.

  فاتقوا الله يا شباب المسلمين واستغلوا ما منحكم الله من قدرات ومواهب لتنفعوا أنفسكم وأهليكم ومجتمعكم.

   نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عليه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث