حدث ووقفات

الخطبة الأولى

   الحمد لله غافر الزلات مقيل العثرات، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أولي النهي والعلم والعرفان، والتابعين لهم بإحسان. أما بعد :

عباد الله!اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى. (يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (التوبة: 119).

أيها المسلمون!

   إن بين يدي الساعة فتناً مخيفة، وأموراً مدلهمة، لا تختص بالظالمين، بل قد تنال الصالحين ( واتقوا فتنة لا تصيبنَّ الَّذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) (الأنفال: 25).

عباد الله !

   ولقد وقعت في بلادنا خلال الأيام الماضية أحداث جسام، ومصائب عظام، وفتن تدع الحليم حيرانَ، حيث تم الإعلام عن اكتشاف أسلحة وذخائر معدة للتفجير، ثم تلاها ما وقِّت من تلك التفجيرات التي هزت القلوب قبل الأجسام، فتسارعت الأحداث بشكل ينذر بخطر عظيم، وخطب جسيم.

        أرى خلل الرماد وميض نار     ويوشك أن يكون  لها ضرام

        فإن لم يطفها عقلاء قومـي       يكون وراءها فتن عظــام

أيها المسلمون!

   ثم تنطلق الأصوات هنا وهناك لعلاج ما حدث، وتدارك الأمر، فقد اختلط الحق بالباطل، والصدق بالكذب، والتبس العالم بالجاهل، والسيد بالرويبضة، كل يدعي الإصلاح، ويبحث عن المخرج، لذا لزم على أهل العلم بيان الحقيقة، ورفع اللبس دون المجاملة، ولا نجاة إلا بالصدق.

عباد الله!

  إن أي معالجة للحدث يجب أن تكون منطلقة من إدانة صريحة واضحة لا لبس فيها لهذا العمل الشائن المحرم، فإن باب الدماء- كما يقول شيخ الإسلام: من أجلِّ الأبواب وأعظمها حرمة عند الله ورسوله، والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في هذا الباب كثيرة معلومة كما في قوله تعالــى : ( أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) (المائدة : 32) وقال جل وعلا: ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً) (النساء: 93) ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"  .

  وجاءت الشريعة بحفظ الأمن، كما في دعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (رب اجعل هذا البلد آمناً) (إبراهيم: 35) وقوله تعالى: ( وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً) (النور: 55) وقد عدّ الله عز وجل الأمن من نعمه العظمى التي جعلها مهوى أفئدة المؤمنين: (أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم) (العنكبوت: 67).

أيها المسلمون:

  إن الإدانة لهذا العمل المشين منطلق من النصوص الشرعية والمصالح المرعية، ولأننا جميعاً في خندق واحد وسفينة واحدة، والخرمة منها يفضـي إلى غرق الجميع، ويجرنا إلى دوامة من العنف لا يعلم نهايتهــا إلا الله ! وانفلات الأمن أسهل بكثير من إمكانية ضبطه وإعادته.

عباد الله!

   تأملوا ما يصنعه أعداء الإسلام في تحليلهم لهذا الحدث الجلل، الذين سارعوا إلى اتهام العلماء والدعاة الصالحين، وثنوا بمناهج التعليم التي خرجت رجالاً شهد لهم القاصي والداني، والعدو والصديق طوال عقود مضت، وثلثوا بمنهج أهل السنة والجماعة الذي سار عليه أئمة الدعوة، وقامت عليه هذه الدولة قبل أكثر من ثلاثمائة سنة، وطفقوا يرددون أقوال أسيادهم من أهل الكتاب، وساروا على نهج أسلافهم من منافقي الأمس (قاتلهم الله أنَّى يؤفكون) (التوبة: 30) وإذا ترك الأمر لهؤلاء يقولون ما يشاؤون ويتهمون من يريدون، يزعمون الإصلاح، وهم المفسدون، (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون* ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) (البقرة: 11-12) فإن استمر الأمر على ذلك، فالأمر خطير، وستكون الفتن التي تأكل الأخضر واليابس، فإن الناس دون دينهم وعقيدتهم، وهناك ينفلت الزمام، ويتسع الخرق على الراقع، فحري بأولي الأمر أن يوقفوا هؤلاء السفهاء عند حدهم، ويردعوهم عن غيهم، وإلا كان الهلاك.

عباد الله !

   إن الأمن مطلب شرعي، ومنة إلهية، ونفحة ربانية، امتن الله به على عباده في مواضع كثيرة من كتابه، والمحافظة على الأمن مسؤولية الجميع حكاماً ومحكومين، رجالاً ونساء صغاراً وكباراً. والأمن ليس هو أمن الأجسام فحسب، بل هو أمن العقول والأفكار، وسد منافذ الشر، وأعظم سبب لحفظ الأمن هو الإيمان بالله وتطبيق شرعه، والاحتكام إلى كتابه وسنة رسوله، والبعد عن الظلم، وعمدة ذلك التوحيد، وتنقية المجتمع مما يضاده (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون). (الأنعام: 82).

  والمحافظة على  الأمن عبادة نتقرب بها إلى الله، كيف والضرورات الخمس كلها تدل عليه وتقتضيه، ففي ظل الأمن تعمر المساجد، وتقام الصلوات، وتحفظ الأعراض والأموال، وتأمن السبل، وينشر الخير، ويعم الرخاء، وتقام الحدود، وتطبق شريعة الله، وإذا اختل الأمن، كانت الفوضى، وحكم اللصوص وقطاع الطريق، يقول سبحانه : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره) (الحج: 40) وها نحن نرى- ولله الحمد- تصريحات المسؤولين أن كل ما يحدث في البلاد لن يؤثر على ديننا ومسلماتنا، ولن يزجرنا عن دين الله وشرعه وما قامت عليه البلاد، إذاً فلنكن كلنا جنوداً في حفظ الأمن، أمن العقول والقلوب والأفكار من الشبهات المضللة والأفكار المنحرفة، وأمن الأجسام، والمجتمعات، ولتحقيق ذلك لا بد أن نبدأ في تطبيق شرع الله في أنفسنا وبيوتنا ومجتمعنا، وإلا فلنحذر من هذا المثل (وضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (النحل: 112).

عباد الله :

   إن الدين حاجز عن العدوان، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان قَيْدُ الفتك، لا يفتك مؤمن" رواه أبو داود وغيره  ، ولولا الدين وعصمتـــه لاضطرب أمر الناس وأمنهم، ولهذا فالذين يحاولون ربط هذا الحدث بالتدين أو بالمؤسسات القائمة في المجتمع إدارية كانت أو علمية أو تربوية، فهم يجادلون بغير حق، ويريدون توسيع دائرة الفتنة، والواجب عزلُ الحدث في إطاره الخاص، والتعامل مع الأزمة بمسؤولية وواقعية.

ولهذا عباد الله! فإننا نرى الحملات شديدة على الدين وأهله، ومحاولة إلصاق التهم المعلبة بهم، وأصبح الدين مادة دسمة في المقالات الصحفية والرسوم الكاريكاتيرية، وإن وقعت هذه الأحداث ممن ظاهرهم التدين، فهل يعني ذلك اتهام الشريعة الإسلامية كلها؟ وهل تعمم الأحكام عليها كلها وأهلها؟ ! فهل سمعتم من اتهم الطب؛ لأن طبيباً أخطأ، أو اتهم الهندسة؛ لأن مهندساً ما أجاد ؟! أفلا نتقي الله في دين الله؟ وهل نتقي الله في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل نتقي الله في الصالحين والعلماء ؟!!

عباد الله!

   إن هذه البلاد ما عزت وما تميزت، وما أصبحت علماً يشار إليه بالبنان، وتقصد من كل ناحية إلا بتميزها بدين الله وتمسكها بشريعة الله وتوحيده، وبنشر العلم الشرعي، فيها قبلة المسلمين، وهي بلاد الحرمين الشريفين، يقصدها المسلمون من كل فج عميق، وما تميزت إلا بسبب مناهجها الصادقة، وعلمائها الناصحين، وإظهار شعيرة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وحكم حكامها بالشريعة، فهذا سرّ تميز هذه البلاد في جميع أنحاء الأرض.

أيها المسلمون!

  فما بال أقوام زلت ألسنتهم في التعليق على ما حدث بالقدح في دين الله والاستهزاء بشعائر الدين؟ وما بال أقوام انحرفوا عن الجادة، وانطلقت أيديهم وألسنتهم بالغمز والهمز واللمز للدين وأهله ومؤسساته؟ فهلا سألوا أنفسهم هل هذا هو النصح والصدق؟ فما لم يعالج الداء ممن هو مختص بهذه الأدواء، فلن يعالجه قلم طائش، ولسان منفلت يهرف بما لا يعرف.

أيها المسلمون!

    لا شك أن مثل هذه الأحداث المؤلمة تحتاج إلى دراسات جادة متمثلة بالنصح والصدق والرجوع إلى الله تعالى، والنظر والتمحيص.

   نسأل الله تعالى أن يقينا الفتن وشرورها، وأن يحفظنا من كل انحراف غلواً وتقصيراً، وأن يسدد الخطى ويوفق المسؤولين للقضاء على كل عابث وإيقافه عند حده، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث