بصائر لذوي الضمائر

الخطبة الأولى

   الحمد لله رب العالمين، لا إله إلا هو مالك الملك، عالم الغيب والشهادة، يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، أحمده سبحانه وأشكره، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يكتب النصر والتأييد والعز والتمكين لعباده الصالحين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، قائد الغر المحجلين، وإمام المجاهدين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان. أما بعد:

عباد الله!

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، جل وعلا، فاتقوا الله وراقبوه وأطيعوه، ولا تعصوه (يا أيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا اللَّه وكُونُوا مع الصَّادقين). (التوبة: 119)

أيها المسلمون !

   إن المتأمل في حال هذه الأمة، وما وصلت إليه من الذل والقهر قد يتبادر إلى ذهنه هذا السؤال: هل يمكن أن تقوم للمسلمين قائمة، ويرجع المسلمون لعزهم ومكانتهم، بل وإلى قيادة البشرية كما كان أسلافهم؟ هل يمكن أن ترجع إلى سالف عزها بعد أن تكالب أعداؤها من كل جانب، وقاموا بضربها بيد واحدة؟ هل ستفيق هذه الأمة من نومها خصوصاً بعد أن اشتد الكرب عليها، وبعد أن قام ناس من أبنائها بمحاربة دينها؟ فهل بعد هذا كله يمكن لأمه أن تقوم من سباتها؟ وهل سيأتي نصر الله لأوليائه المؤمنين؟ كيف لا ؟ ونحن نقرأ في كتاب الله سبحانه:(يا أيُّها الَّذين آمنوا إن تنصُرُوا اللَّه ينصُرْكُمْ ويُثبِّت أقدامكم) (محمد : 7).

عباد الله!

   إن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم لا محالة كقدوم الليل والنهار، وإن أمة الإسلام قد تمرض، وقد يعتريها فترات من الركود الطويل، لكنها بفضل الله تعالى لا تموت.

عباد الله!

   إن أمة الإسلام تمر في هذه الأيام بمرحلة من أصعب مراحلها، فقد تكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، يحاربون دينها ويحتلون أراضيها، ويغتصبون خيراتها، وتحقق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت"  . ويقول صلى الله عليه وسلم : " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"  .

أمة الإسلام! في صورة بربرية ومشاهد بشعة تنكرها العقول لولا ثبوتها، ولهولها وشدتها ظنت طوائف من المسلمين بالله الظنون، وربما خيل لبعضهم أن شجرة الإسلام قد اجتثت من أصولها، وأن بذرة المسلمين قد استؤصلت من جذورها، بل بالغ بعضهم، فظن في تلك الحوادث المؤلمة نهاية العالم، واعتبرها آخرون أشد من فتنة الدجال! أتدرون ما هذه الحادثة العظيمــة؟ ومتى وقعت؟ وأين وقعت؟؟ نعم أمة الإسلام إنها حادثة دخول التتر بـلاد المسلمين في حادثة أليمة وواقعة مفجعة هزت وقائعها بلاد المسلمين، لقد وقعت هذه الحادثة في عالمنا الإسلامي في القرن السابع الهجري، يوم أن ضعف سلطان المسلمين، وتفرقت كلمتهم، وأثقلت خطاياهم، وتنازعوا أمرهم بينهم، حينها خرجت جحافل المغول المتوحشة تسفك الدماء، وتقتل الأبرياء، وتهتك أعراض النساء، وتستولي على الممتلكات والضياع دون رادع أو حياء! أجل أمة الإسلام! لقد بقي المؤرخون قائمين في كتاباتهم على حماية الإسلام، وكسر شوكة أعدائه، وقد نقلوا لنا فيما كتبوه عن السلف الصالح كثيراً من النصائح والأمثال، فمما قيل: الجزع لا يغني من القدر، والصبر من أبواب الظفر، والمنية ولا الدنيَّة، واستقبال الموت خير من استدباره، وهالك معذور خير من ناج فرور، كان الصحابة يقدمون على الموت إقدام من ليست حياته بيده، فأخذوا بنواصي الأكاسرة وهامات القياصرة، وذروا التراب على وجوه الطغاة، الذين طالما جرعوا الإنسان جزع الذل والهوان، وأذاقوا غصص الخسف والاستبداد.

عباد الله !

  لقد رأينا في زماننا هذا، ملء أعيننا مصداق قول المصطفى، صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" .

عباد الله!

  لقد أصبح المسلمون في ميزانهم كَمَّاً هائلاً من البشر غير متحضر، ولا يستحق الوجود، هكذا تختل موازينهم، وهكذا الحال حين تكون الموازين أرضية بشرية كفرية.

   لقد بقي ابن الأثير رحمه الله- وهو شاهد عيان لبعض أحداثها- عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، وهو يقول: فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك ؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا، وكنت نسياً منسياً، إلا أني حدثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً ، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله، سبحانه وتعالى، آدم عليه السلام، وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً.

عباد الله!

   هذا الوصف من ابن الأثير لهذه الحادثة الكائنة، وهو يكشف عن استمرار البلوى والامتحان لأهل الإيمان عبر الزمان والمكان، ويقول شيخ الإسلام عن هذه الحادثة : فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنن الله وأيامه في عباده ودأب الأمم وعادتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق ذكر الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) (الأحزاب: 12)، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق أو ضعف إيمان، ورفع بها أقواماً إلى الدرجات العالية، ما خفض بها أقواماً إلى المنازل الهاوية، وحدث بها من البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى.

أمة الإسلام!

  إن هذه الفاجعة العظمى، والمصيبة الكبرى لأمة الإسلام في سقوط بغداد، ونهاية الخلافة الإسلامية الكبرى من قبل التتار، وتلك المآسي والآثام، تلك الأحداث خلفت جواً من الرعب والضعف والمسكنة، يصف لنا ابن الأثير بعض مظاهرها، ويقول: قال لي رجل : كنت أنا، ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وأمرنا أن يكتِّف بعضُنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد، فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا نخاف: فقلت : هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكيناً وقتلته وهربنا فنجونا.

عباد الله!

   فإن قلتم: وهل وقع في هذه المحنة ما يستوجب هذا الوحشة وذلك الفَرَق والذهول لأهل الإسلام؟ أجبت أن نعم، وإليكم نماذج لما حصل، ففي بخارى المسلمة دخل التتر عنوة، وطلب أهلها الأمان، فأظهر لهم جنكيز خان العدل وحسن السيرة، وهو يروم غير ذلك، إذ أمر بالتوجه إلى قلعتها الحصينة التي احتمى بها طائفة من العسكر لم يتمكنوا من الهرب مع أصحابهم، وطلب من أهل البلد الخروج معه لمحاصرتها، ومن تخلف عنه قتل، فكانت تلك بداية الاستخفاف والاستذلال، فخرجوا خوفاً من بطشه، وأمرهم بردم الخندق المحيط بالقلعة ففعلوا، وبلغ من سوء التتر واستهتارهم أن استخدموا كل شيء في ردم هذا الخندق حتى ألقيت المنابر وربعات القرآن في الخندق، وبعد قتال مرير دخلوا القلعة ، وقتلوا جميع من احتمى بها من المسلمين، ولم تقف المأساة عند هذا الحد، بل عادوا مرة أخرى إلى البلد يقتلون ويأسرون ويفسدون.

   وفي سمرقند نصب التتار كميناً لأهلها، فوقع في شراكهم سبعون ألفاً من المسلمين قتلوا في غداة واحدة شهداء، ثم عادوا إلى البقية الباقية من أهلها يقتلون ويأسرون ويفسدون، فهدمت المساجد وفضت الأبكار، وعُذب الناس بأنواع العذاب.

   أما في مرو فأحصي ما قتلوه في يوم واحد، فبلغ سبعمائة ألف إنسان، كما نقل ابن كثير رحمه الله تعالى.

أيها المسلمون! هذا ما جرى في حقبة تاريخية سابقة قلنا فيه العظة والعبرة فليتقي الله الخاصة والعامة، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

   نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث