سنة التغيير

الخطبة الأولى

  الحمد لله الذي بيده مقاليد كل شيء، فجعل دوام الحال من المحال، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه وأفضاله في كل حين وحال، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، العليم بكل الأحوال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الصحب والآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.. أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى فإن أجسامكم على النار لا تصبر ولا تقوى.

أيها المسلمون! إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون، وجعله قائماً على سنن لا تتخلف، بها عمارة الكون ودماره، وصلاحه وفساده، وقد بينها الله تعالى في كتابه، ورسوله، صلى الله عليه وسلم، في سنته. وإن من سنن الله، جل وعلا، التي قضى بها في محكم التنزيل، وبلغها أمته رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، وتمثلت وقائعُها التي لا تحصى حية مشهودة للناظرين في قصص التاريخ: سنة التغيير.. قال الله جل وعلا: ( إنَّ اللّهَ لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتَّى يُغيِّروا ما بأنفُسهم وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مردَّ له وما لهُم من دُونه من والٍ ) (الرعد : 11)، وقال سبحانه : (ذلك بأنَّ اللّه لم يكُ مُغيِّراً نعمةً أنعمها على قوم حتَّى يُغيِّروا ما بأنفسهم وأنَّ الله سميعٌ عليهم* كدأبِ آل فرعون والّذين من قبلهم كذَّبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فِرعون وكُلٌّ كانُوا ظالمين) (الأنفال: 53-54).

عباد الله!

  إنها سنة من سنن الله تعالى في خلقه، لا تتخلف ولا تتبدل، تصيب من حقت عليه من الأمم والأفراد، فلا فكاك لهم منها.

   سنة نرى آثارها رأي العين من حولنا في واقعنا، ويخبرنا الوحي المطهـر بآثارها في الأمم السالفة، فالسعيد من وعظ بها واعتبر:

(أوَلاَ يَرَونَ أنَّهم يُفتنون في كُلِّ عامٍ مرَّةً أو مرَّتين ثم لا يتوبون ولاَ هُم يذَّكَّرون) (التوبة: 126) ، (إنَّ في ذلِكِ لذِكرى لِمن كانَ لهُ قلبٌ أو ألقى السَّمع وهو شهيدٌ) (ق : 37).

  إنها سنة تتابعت على الأمم، وتتابعت عليها الأمم، فلم يسلم من وجوبها من وقع في أسبابها (فكأيِّن من قريةٍ أهلكناها وهي ظالمةٌ فهي خاوية على عروشها وبئر معطَّلةٍ وقصرٍ مشيدٍ) (الحج : 45).

  وإنها لسنة يوعظ بها المؤمنون ويجدون أثرها ما استقاموا على شرع الله وطاعته، كما يعاقب بها الكافرون بأنواع العقوبات التي أعدها الله لمن كذب بوحيه وحارب رسله.. (فلن تجدَ لِسُنَّتِ اللَّه تبديلاً ولن تجد لِسُنَّتِ اللَّه تحويلاً) (فاطر: 43)

   وبين أيدينا قصص القرآن تتلى آناء الليل وأطراف النهار لمن أراد أن يذكّر.. ولمن أراد أن يعتبر، أمم كذبت، وتنكبت الصراط، وغيّرت منهج الله تعالى، فأبادها الله وأزالها وأذلها وأذاقها الخزي في الدنيا، وتوعدهم بعذاب في الآخرة أشد وأبقى، هكذا هي السنة الكونية، قال الله جل وعلا:

   (وإن يُكذِّبوك فقد كذَّبتْ قبلهم قوم نوح وعادٌ وثمود* وقوم إبراهيم وقوم لوط* وأصحاب مدين وكُذِّب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير* فكأيِّن من قريةٍ أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عُروشها وبئر مُعطَّلةٍ وقصر مشيد* أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور* ويستعجلونك بالعذاب ولن يُخلف الله وعده وإنَّ يوماً عند ربك كألفِ سنة مما تعُدُّون* وكأيِّن من قريةٍ أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإليَّ المصير) (الحج:  42-48).

عباد الله ! وإن من أوضح الأمثلة وأبينها في حلول سنَّة التغيير: كفار قريش الذين تنكبوا الصراط السوي، وصدوا عن سبيل الحق والهدى،  لما جاءهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يشفع لهم حسب ولا نسب ولا جاه ولا منصب، بل أبدل الله بهم قوماً يحبهم ويحبونه، ونقل العزة والشرف إلى الأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان، ونصروا الرسول، صلى الله عليه وسلم، بأنفسهم وأموالهم وكل ما يملكون؛ فذهب عن قريش ما كانت تستحوذ عليه من الجاه والشرف جراء استكبارهم عن تغيير ما بأنفسهم؛ فغيّر الله ما كانوا فيه من الشرف والمنزلة إلى الذل والهوان.

   وحتى ولو كان التغيير قليلاً في نظر الناس، ولو كان من عباد الله الصالحين، فأفضل الناس بعد الرسل صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لما خالف الرماة أمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، في غزوة أحد حقت عليهم سنة الله، وغيّر الله ما كانوا عليه من الغلبة والنصر، ثم نزل القرآن يربي الجماعة المؤمنة، ويرد على من استنكروا وقوع الهزيمة رغم إيمانهم، ويبين لهم أن لله سنناً لا تتخلف، فقال الله جل وعلا: (أوَلمَّا أصابتكم مُصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنَّى هذا قل هو من عند أنفسكم إنَّ الله على كل شيءٍ قدير) (آل عمران: 165).

  روي عن قتادة رحمه الله، أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي، صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده ما من خَدْشِ عُود ولا اختلاج عِرْقٍ ولا عَثْرِ، قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر".

   نعم عباد الله.. إن سنن الله عز وجل لا تحابي أحداً، ولكل نصيب منهـا، فمقل ومستكثر، وغافل ومستبصر، والسعيد من وعظ بغيره.

   عباد الله: ولما غفل كثير من المسلمين عن سنة التغيير، أو غاب عنهم فهمها، راحوا عند كل بلية وفتنة ومحنة يندبون حظهم، ويلقون بالتبعة والمسؤولية على كل شيء إلا أنفسهم وما كسبت أيديهم. لكن الوحي المطهر يبين الحق للناس، قال الله جل وعلا: (ظهر الفساد في البرِّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليُذيقهم بعضَ الَّذي عملوا لعلَّهم يرجعون) (الروم: 41)، وقال سبحانه: ( وما أصابكُم من مُصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (الشورى: 30).

   ومن هنا يدرك المؤمن أن لكل عقيدة تأثيراً، ولكل عمل نتيجة، فيقف المؤمن خاشعاً أمام سلطان المولى، جل وعلا، وحكمته، يأخذ العبرة، ولا يستولي عليه العجب مما يرى، إنه السنة الإلهية التي يكافىء الله بها الأفراد والجماعات، برحمة وبركة وعافية وكرامة لصالح الأعمال والأخلاق في الدنيا والآخرة، أو عقوبات مستحقة من هلاك وعذاب وإذلال على الأعمال والأخلاق الفاسدة.. وصدق المولى الجليل: (إنَّ الله لا يظلمُ النَّاس شيئاً ولكِنَّ النَّاسَ أنفسهم يظلمون) (يونس: 44).

  وكما قيل: " وبضدها تتميز الأشياء" ؛ فإن التغيير والتحول إذا كان إلى الخير والصلاح كان معه الأمن والاستقرار والعز والتمكين ودوام النعمة وبركتها وزيادتها.

   والعكس بالعكس؛ إذا ساد الفساد والترف والبغي، قال الله جل وعلا: (وإذا أردنا أن نُهلِكَ قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القولُ فدمَّرناها تدميراً) (الإسراء: 16)، فهولاء جاءتهم رسلهم بطاعة الله تعالى ورسوله، وعمل الصالحات، وعدم الإفساد في الأرض، فأبوا وكفروا، وفسقوا، فاستحقوا عقاب الله تعالى بالخسف والدمار والهلاك، ولما سئل الخليفة الفاروق عمر رضي الله عنه: أتوشك القرى أن تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فجارها على أبرارها وساد القبيلة منافقوها. فاتقوا الله عباد الله وغيّروا من حالكم إلا الأحسن والأفضل يتم لكم ما تتمنون في الدنيا والآخرة.

   نفعني الله وإياكم بهدي وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

   اللهم ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، واغفر لنا ذنوبنا، واستر عيوبنا، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث