قصة أصحاب الجنتين

الحلقة الأولى

 الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا عباد الله فاتقوا الله وراقبوه وأطيعوه ولا تعصوه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) [التوبة: 119] وما زلنا عباد الله مع سورة الكهف نقطف من ثمارها، وننهل من معينها، ونستظل بظلالها، ونعتبر من دروسها.

أيها المسلمون! إن القيم الحقيقية في ميزان العقيدة، ليست هي المال، أو الجاه، كذلك ليست هي اللذائذ والمتاع في هذه الحياة، إن هذه كلها قيم زائلة، تتجلى هذه الحقيقة في قصة صاحب الجنتين حيث ضرب الله سبحانه في هذه السورة مثلاً رجلين: أحدهما يعتز بما أوتي من مال وعزة ومتاع، والآخر يعتز بالإيمان الخالص، ويرجو ما عند ربه مما هو خير، ثم يعقب بمثل يضرب للحياة الدنيا كلها، فإذا هي قصيرة زائلة كهشيم تذروه الرياح، وتنتهي من ذلك كله بتقرير الحياة الباقية، قال الله تعالى: (واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً). [الكهف: 32-33].

عباد الله! تجيء قصة الجنتين والرجلين لتضرب مثلاً للقيم الزائلة والقيم الباقية، وترسم نموذجين واضحين للنفس المعتزة بزينة الحياة، والنفس المعتزة بالله وكلاهما نموذج إنساني لطائفة من الناس: صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري، تذهله الثروة، وتبطره النعمة فينسى القوى الكبرى- قوة الله القاهرة على عباده – ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى، فلن تخذله القوة ولا الجاه، وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه الذاكر لله ربه، يرى النعمة دليلاً على المنعم موجبةً لحمده وذكره، لا لجحوده وكفره.

وتبدأ القصة: بمشهد الجنتين من أزهار عبقة وأشجار سامقة (واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً) [الكهف: 32] فهما جنتان مثمرتان ، محفوفتان بسياج من النخيل تتوسطهما الزروع، ويتفجر بينهما نهر.. إنه المنظر البهيج والحيوية الدافقة.

     (آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً) [الكهف: 33] أي أن ثمرها وزرعها ضعفان أي: متضاعفاً وأنها لم تنقص من أكلها أدنى شيء، ( وكان له ثمر فقال لصاحبه) [الكهف: 34] كان له ثمر زائد عن الجنتين، وهذا أدى به إلى الاغترار على صاحبه، (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال: ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدنَّ خيراً منها منقلباً) [الكهف: 35-36] أي ما أظن أن تفنى هذه الجنة، لأنه أعجب بها وبما فيها من قوة وجمال منظر؛ حتى نسي أن الدنيا لا تبقى لأحد، ثم أضاف إلى ذلك قوله: (وما أظن الساعة قائمة) بل وصل به الغرور والكبر إلى إنكار قيام الساعة والعبث، لأنه يظن إذا كانت جنته لا تبيد فهو يقول: لا بعث، وإنما هو متاع الحياة الدنيا، (ولئن رُددت إلى ربي) على فرض قيام الساعة! (لأجدن خيراً منها منقلباً) إي مرجعاً، فكأنه يقول: بما أن الله أنعم علي بالدنيا، فلا بد أن ينعم عليَّ في الآخرة- وهذا في الحقيقة من جهله وقصور عقله، وإلا فأي تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أنه من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة؟! بل الغالب أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه، الذين ليس لهم في

الآخرة نصيب، قال صلى الله عليه وسلم : (وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) .

أيها المسلمون! وفي المقابل تظهر الصورة الناصعة صورة المؤمن المعتز بإيمانه المتواضع بأخلاقه، إنها صورة صاحبه المؤمن الفقير، الذي يقول له ناصحاً له ومذكراً له حاله الأولى التي أوجده الله فيها في الدنيا (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً) [الكهف: 37] ويستفاد من هذا أن منكر البعث كافر، ولا شك في هذا كما قال تعالى: ( زعم الذين كفروا ألن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير) (التغابن: 7) ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن حاله واستمراره على كفره وطغيانه؛ قال مخبراً عن نفسه على وجه الشكر لربه والإعلان بدينه عند ورود الفتنة والشبهة : (لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً) [الكهف: 38] أصلها (لكن أنا) أي هو الله ربي، فأخبر بربوبية ربه له وانفراده فيها، والتزام طاعته وعبادته، وهكذا- عباد الله يستشعر المؤمن أنه عزيز أمام الجاه والمال، وأن ما عند الله خير من أعراض الحياة الدنيا الزائلة.

   ثم يقول الله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً) [الكهف: 39] أي: هلاّ حين دخولك الجنة والبستان قلت: " ما شاء الله لا قوة إلا بالله" حتى تجعل الأمر مفوضاً إلى الله عز وجل، وهذا يعني تفويض القوة لله الواحد القهار، فهذه الجنة ما صارت بقوتك أنت ولا بمشيئتك أنت، ولكن بمشيئة الله وقوته، وينبغي للإنســـان إذا أعجبه شيء من ماله أو مال غيره أن يقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) حتى يفوض الأمر إلى الله عز وجل لا إلى حوله وقوته، وقد جاء في الأثـر "أن من قال ذلك في شيء يعجبه من ماله فإنه لن يرى فيه مكروهاً"  قال سبحانه وتعالى: (فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً. أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً) [الكهف: 40-41] وهذا إما دعاء من الصاحب المؤمن أو توقع منه، بأن يعاقبه الله بإتلاف جنة الكافر بأن يرسل عليها فيضاناً من السماء فتصبح الجنة لا نبات لها قد غمرتها المياه، أو يصبح ماء الجنة والبستان غائراً في الأرض لا يستطيع الوصول إليه لبعده في قاع الأرض.

أيها المسلمون! وفجأة !! ينقلنا السياق من مشهد النماء والازدهار إلى مشهد الدمار والبوار، ومن هيئة البطر، والإنكار، إلى هيئة الندم والاستغفار، فلقد كان ما توقعه الرجل المؤمن!! (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول : يا ليتني لم أشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً) [الكهف: 42-43]. والإحاطة بالثمر يستلزم تلف جميع أشجاره وثماره وزرعه، فندم كمال الندامة، واشتد لذلك أسفه- ويا له من مشهد مؤثر لو تأمله الإنسان بعين عقله وبصيرته- نعم عباد الله- لقد تلاشت كل النفقات الدنيوية التي خسر فيها صاحب الجنة، حيث اضمحلت وتلاشت، فلم يبق لها عوض، وندم حينئذ على شركه بالله وكبره عن الحق، ويعترف الآن بربوبية الله ووحدانيته، وهنــا يتفرد الله بالولاية والنصر والقدرة، فلا قوة ولا نصر إلا نصره (هنالك الولاية لله الحق هو خير ثواباً وخير عقباًَ) [الكهف: 44] لأن من كان عاقبته نصر الله عز وجل وتوليه، فـلا شك أن هذا خير من كل ما سواه، فإن جميع العواقب التي تكون للإنسان على يد البشر تزول، لكن العاقبة التي عند الله عز وجل لا تزول، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث