الخوف من الله

الخطبة الأولى

  الحمد لله المبدىء المعيد، ذي العرش المجيد، والبطش الشديد، الفعال لما يريد، أحمده سبحانه وأشكره، فبالشكر تدوم النعم وتزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أَنْذَرَ القريب والبعيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ذوي الحِجَا والرأي السديد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يبعث الناس من جديد.

   أما بعد : عباد الله ! اتقوا الله (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) [البقرة: 281] اتقوا يوماً الوقوف فيه طويل، والحساب فيه ثقيل.

أيها المسلمون!

   هذه الحياة الدنيا دار سير إلى الآخرة يعيش فيها الإنسان مرحلة من مراحل تكوينه ووجوده، وقد ابتلاه الله فيها، وكلفه فيها، لينظر الصادقين من الكاذبين، ورسم له الطريق ، وأوضح المعالم، وأوجد العلامات الدالة على الفوز والنجاة.

   وبيّن الضمانات التي تضمن مسيره إلى الدار الآخرة بأمن وسلام، أهمها وأقومها أن يعيش في هذه الدنيا بين خوف الله تعالى، ورجائه له، خوفه من عقابه وعذابه، ورجائه لرحمته وغفرانه، فهما كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: جناحا قلب العبد المؤمن يطير بهما إلى الله تعالى، ومتى افتقد الطائر جناحيه أو أحدهما، فهو عرضة لكل صائد وكاسر.

أيها المسلمون!

  أحد هذين الجناحين الذي يطير بهما قلب المؤمن: الخوف من الله تعالى وخشيته، خوفٌ يستلزم معرفة العبد لربه، وعبادته وحده دون سواه، وطاعته وتنفيذ أوامره، ومحبته وطلب رضاه.

   الخوف من الله، صفة من صفات المتقين، وخصلة من خصال العارفين، ودليل على اليقين بالله رب العالمين، وبموعوده.

  وقد وصف الله به ملائكته المقربين (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) [النحل: 50] فكلما زاد العبد معرفة بربه، وبنفسه، وبمحبته، واستشعر تكليفه، كان لخالقه أخشى وأخوف، جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة الخائفين "إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية"  .

أيها المسلمون!

   للخوف من الله آثار تنعكس على الفرد المؤمن الخائف، من أعلاها وأقواها: السرعة إلى رب العالمين في المسير، والعمل الصادق خشية الوقوع في الآثام والسعير.

   ومن الآثار العظيمة: الكف عن المعاصي، والحذر من الوقوع في محارم الله، والبعد عن السيئات وأماكنها ومجالسها، روى الشيخان، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله- وذكر منهم-: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله" . فحال خوفه من ربه بينه وبين إغراء هذه الفتنة، وإغواء الشيطان، قال بعضهم: من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل  ، وقال آخر: ليس الخائف من بكى، إنما الخائف من ترك ما يقدر عليه من أثر الخوف.

أيها المسلمون!

   الخوف من الله يحدث على وجوه: أحدها: معرفة العبد بذُلِّ نفسه وهوانها وقصورها وعجزها، وأنه لا يمنعها شيء من الله تعالى إن أرادها بسوء، قال تعالى: ( مالكم لا ترجون لله وقاراً، وقد خلقكم أطواراً) [نوح : 13، 14] والذي خلقه من طور إلى طور قادر على أخذه وعقوبته في كل حال، والثاني: ما يحدث من المحبة، وهو أن يكون العبد في عامة الأوقات وَجِلاً من أن يَكِلَه إلى نفسه، ويمنعه التوفيق، ويقطع دونه الأسباب، فلا يزال مشفقاً من حرمان محبته، خائفاً من السقوط عنده، والثالث: ما يحدث من الوعيد، قال تعالى: (وإياي فاتقون) [البقرة: 41] وقال : (وإياي فارهبون) [البقرة: 40] وقال : (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) [إبراهيم: 14] فخوف المسلم من ربه نابع من خشيته لربه، وتعظيمه له، وإجلاله له، ومن خوف سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، فالخوف المحمود المطلوب هو الذي يعلق صاحبه بالله عز وجل ، ويقوده إلى طاعته، وطلب الرحمة والمغفرة مقترناً بحسن الظن بالله تعالى.

أيها المسلمون!

   ليس الخوف المقصود هو ذلك الذي يقعد صاحبه عن العمل، أو يدعوه إلى ما حرم الله، أو اقتراف المنكرات والآثام، والتقلب بين المعاصي والسيئات، وليس ذلك الخوف الذي يدعيه بعض الصوفية الجهلة ممن غلب عليهم الجهل بالله وهوى النفس، وخزعبلات الضلال، ووساوس الشيطان.

   وليس ذلك الخوف الجبلِّي الطبعي من بعض الأمور، كالظلام، أو كون إنسان أوْعَدَهَ وَهَدَّده، أو خوف الهلكة من حيوان ونحوه.

   وليــس ذلك الخوف الذي هو الهلع تجاه الرزق، أو رزق الأولاد، ويحدث عند هذا الخائــف اضطراباً وقلقاً دون تعلق بالله، أو اتكال عليه، فيورث له هذا الخوف بخلاً وإمساكاً وشحَّاً عن سبل الخير والمعروف. وإن

كان قيل: العيال مجبنة مبخلة  ، إلا أن ما عند الله من الثواب وجليل الأجر أرجى لانطلاق الأيدي بالعطاء.

أيها المسلمون!

   كل هذا الخوف وأمثاله، إما خوف مذموم كالخوف من الشياطين أو خوف الجهال، أو خوف امتناع الرزق وعدم الشفاء من الأمراض، أو خوف لا يذم  ولا يمدح، وهو الخوف الجِبِلِّي الطبعي الذي يقع لبعض الناس، كالخوف من مجهول، أو من سبع ونحوه. وفحري بالمسلم العاقل أن يتجنب هذه المخاوف، وأن لا تسيطر عليه هذه الأوهام، فيتعلق بما دون الله عز وجل.

أيها المسلمون!

   إن الخوف من الله، والخشية من عقابه، وعذابه، القائم على الشعور بقدرة الله تعالى وهيمنته، وما توعد به الكفرة، والمجرمين من عقاب أليم، وعذاب شديد، هو الذي يجب أن يتصف به المسلم، ولكن لا ينبغي أن يفضي هذا الخوف إلى اليأس من رحمة الله، والاستبعاد لمغفرته، وعفوه، فهذا اليأس من شأن مسيء الظن بالله تعالى من الكافرين، قال تعالى : ( ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). [يوسف: 87].

   فاتقوا الله، عباد الله! وعظموا ربكم (واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً) [ لقمان: 33].

   نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله أنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث