الخطبة الثانية

    الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاَّ على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

أيها المسلمون! لقد بيّن لنا نبينا صلى الله عليه وسلم مواطن الربا، وأين يكون، وكيف يكون؟ ففي مسند أحمد، والبخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبرُ بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء".

    وهذه الأصناف التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق بها العلماء ما كان في معناها، ودل النهي على أن هذه الأصناف وما في معناها كالنقود اليوم، إذا بيع الشيء منها بجنسه، فلا بد فيه من أمرين:

الأول: القبض من الطرفين في مجلس العقد، والثاني : التساوي بأن لا يزاد أحدهما على الآخر، فإن اختل أحد الأمرين وقع المتعاقدان في الربا.

أيها المسلمون! وإن مما شاع في معاملات الناس اليوم أخذ الزيادة وتسميتها زوراً وبهتاناً : الفائدة؛ يأخذها الدائن من المدين نظير تأجيل الدين من قرض، أو ثمن مبيع، أو بسبب تفضيل أحد المبيعين على الآخر مما يجري فيه الربا: كالذهب بالذهب، وغيره مما فيه علة الربا،وقد تكون هذه الزيادة مشروطـــة، وقد تكون متعارفاًَ عليها، كما هو حال كثير من المعاملات الربوية الشائعة التي اكتوى بنارها كثير من الناس في هذا الزمان.

  فمن هذه الصور: الإقراض النقدي من شخص أو مؤسسة مالية لطرف آخر إلى أجل، مع فرض زيادة على هذا القرض تقدر بنسبة مئوية. وكذلك الفوائد التي تؤخذ مقابل تأجيل الديون الحالة على الأشخاص أو المؤسسات إلى أجل، وتتضاعف هذه الفائدة كلما تأخر التسديد.

   فهذه الصور من الربا الذي كان الناس يتعاملون به في الجاهلية، ثم جاء الإسلام بالوعيد الشديد عليها، فقد كان أهل الجاهلية يقرضون الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة تزداد كلما تأخر الوفاء، كما كانوا يأخذونها أيضاً مقابل تأجيل الدين الحال إلى أجل آخر، فيقول الدائن لمدينه: إما أن تَقْضِي أو تُرْبي.

عباد الله ! وقد اتسعت المعاملات في زماننا اتساعاً كبيراً، واختلط الحق بالباطل في كثير منها، وكثرت الشبهات، والتبست الأمور على الناس، وقد جاء في مستدرك الحاكم، وسنن أبي داود، وابن ماجه، والنسائي، وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليأتين على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من غباره".

  فمن صور الربا المعاصر أيضاً: أن يقوم بعض الأشخاص أو المؤسسـات المالية بتمويل بعض المشروعات العمرانية أو الزراعية أو الصناعية ونحوها بما يلزمها من المواد بسعر السوق وقت العقد، أو الطلب على أن يرد صاحب المشروع للممول هذا المبلغ مع زيادة مقدرة بنسبة مئوية مقابل ذلك.

   ومن الصور الربوية أيضاً: بيع عملات الدول المختلفة عملة بأخرى دون تسليم وقبض المبيعين، أو أحدهما في مجلس البيع، وبيع الذهب بالأوراق النقدية دون قبض.

   فعلى المسلم أن يجتهد في التحرز لماله إذا أراد الدخول في هذه المعاملة ومعرفة ضوابطها الشرعية، وما يحل منها وما لا يحل. فإن أشكل عليه منها شيء سأل العلماء ليستبرىء لدينه، وليحذر كثيراً مما يجري من المعاملات التي تسمى بغير اسمها.

   كما يجب الحذر من تتبع الرخص ، فمن الناس من همُّه تتبع الرخص، فتارة يسأل هذا، وتارة يسأل ذلك، فيجب على المسلم في سؤاله أن يسأل من يثق بعلمه وديانته، لا أن يتنقل بين المفتين، حتى يجد الفتوى التي يأنس لها، ويرغب فيها، فيكون متبعاً لهواه.

   فاتقوا الله، عباد الله! في معاملاتكم ومطاعمكم ومكاسبكم، واحذروا كل مكسب خبيث، واطلبوا الرزق من الأبواب الطيبة التي أحلها الله لكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى:(يا أيُّها الرُّسُلُ كُلوا من الطيِّبات) [المؤمنون: 51]، وقال (يا أيُّها الذين آمنوا كُلوا من طيبات ما رزقناكم) [البقرة: 172]، ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسُه حرام، ومشربه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك.

   فاتقوا الله عباد الله وصلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم الله في محكم كتابه الكريم حيث قال (إنَّ الله وملائكته يصلون على النبي...).



بحث عن بحث